يعتبر القطاع الصحي على مستوى العالم من أكثر قطاعات المجتمع المدني حاجة لإعادة هيكلة وإصلاح Restructuring and reform بين وقت وآخر وذلك في ظل التحديات المتواصلة والمتزايدة التي يواجهها هذا القطاع في صور متغيرة من حين لآخر، إلى جانب التغير الطبيعي في نوعية الاحتياجات الصحية للسكان. ولقد أشارت بعض الدراسات العلمية إلى أن القطاع الصحي بحاجة إلى إعادة هيكلة كل (5) سنوات.
وتنطلق الحاجة إلى إعادة هيكلة القطاع الصحي من كونه قطاعاً حيوياً يعني بأغلى ما يملك الإنسان (صحته)، وللعلاقة الطردية الوثيقة بين المستوى الصحي العام للمجتمع مع إنتاجية المجتمع والناتج القومي في مجالات الحياة عموماً.
وتعتبر منظمة الصحة العالمية إعادة هيكلة القطاع الصحي ضرورة حتمية لتمكين هذا القطاع من مواكبة المتغيرات المستجدة وتلبية الاحتياجات الصحية للمجتمعات بالصورة المأمولة.
ويرى الكثير من العلماء في الشأن الصحي أن جمود القطاع الصحي لا يمكنه من التطور ولا يتيح له الأخذ بالمستجدات الطبية التقنية، وفي ذات الوقت لا يمكنه من توفير المخرجات الصحية التي تلبي الاحتياجات المتغيرة والمتزايدة للمجتمع، ولا يمنحه القدرة على تجاوز التحديات الصعبة التي تواجهه في عالم يموج بالمتغيرات.
فالجمود يؤدي إلى التخلف عن الركب في عالم الصحة الذي يركض ركضاً في إيقاع سريع.
** وفي بلادنا الغالية يواجه القطاع الصحي شأنه شأن غالبية القطاعات الصحية في دول العالم تحديات عديدة ومتشعبة تشمل التكاليف المتصاعدة الهائلة للخدمات الصحية والتي تتزايد من يوم لآخر، إلى جانب الارتفاع المتواصل في الطلب على الخدمات الصحية نتيجة للزيادة السكانية (3.7% سنوياً) وزيادة الوعي الصحي وارتفاع متوسط مأمول للحياة (72 عاماً) إضافة إلى أنماط الأمراض السائدة في البلاد من الأمراض المعدية في الماضي إلى الأمراض المزمنة حالياً. وهناك تحديات تتعلق بالحاجة إلى معالجة بعض صور الأداء البيروقراطي والتضحم الوظيفي، والحاجة إلى نظم إدارية وآليات تقنية جديدة لإدارة شبكة المرافق الصحية الضخمة في البلاد والتي تتزايد بصورة مستمرة على امتداد بلادنا المترامية الأطراف.
ويمكنني تلخيص المبررات الموضوعية القوية الداعية لإعادة هيكلة وزارة الصحة على النحو التالي:
1- إن الهيكل التنظيمي الرسمي لوزارة الصحة المعمول به حالياً صادر في عام 1403هـ أي قبل (22) عاماً من عمر الزمن أي أنه صدر في ظل احتياجات وأوضاع وإمكانيات تختلف عما هو عليه الحال الآن، متغيرات اقتصادية واجتماعية وثقافية واقتصادية وصحية كثيرة استجدت خلال هذا البعد الزمني المديد.
في عام 1403هـ كان عدد السكان نحو (10) ملايين نسمة، بينما بلغ اليوم (21) مليون نسمة! ونحن لا نريد تنظيماً جديداً يلبي فقط الحجم السكاني الحالي، بل والمستقبلي أيضاً، الأمر الذي يجعل التنظيم الحالي للوزارة خارج دائرة الزمن!!!
2- إن النظام الأساسي للحكم الذي تضمن مواداً تتعلق بالرعاية الصحية في البلاد صدر في عام 1412هـ، أي أن أهم نظام في البلاد لم يكن صادراً عندما وضع الهيكل التنظيمي للوزارة في عام 1403هـ، وبالتالي فإن من الضرورة بمكان وضع هيكل جديد للوزارة يتماشى مع معطيات هذا النظام الأهم.
3- إن (نظاماً صحياً) جديداً صدر في 22-3-1423هـ متضمناً أهدافاً جديدة لوزارة الصحة وآفاق عمل وتداخلات تنظيمية جديدة، الأمر الذي يستوجب إعادة هيكلة الوزارة وفقاً لمعطيات النظام الصحي الجديد.
4- إن هناك أنظمة صحية جديدة صدرت منها نظام الضمان الصحي التعاوني لغير السعوديين وقرار تطبيق هذا النظام على السعوديين العاملين في القطاع الخاص، ونظام عمل الأطباء السعوديين الاستشاريين خارج أوقات الدوام الرسمي ونظام المؤسسات الصحية الخاصة ولوائح إجراءات العمل بالمؤسسات الطبية وغيرها.
كما أن المجلس الاقتصادي الأعلى أقر في 1-12-1423هـ وضع القطاع الصحي العام ضمن القطاعات المستهدفة للتخصيص. وتبعاً لذلك ينبغي إعادة هيكلة وزارة الصحة بما يتفق ومعطيات هذه الأنظمة الصحية الجديدة.
5- إن الهيكل التنظيمي الحالي لوزارة الصحة بني على أساس الفصل بين الطب الوقائي والطب العلاجي، وهذا توجه عفى عليه الزمن منذ فترة طويلة، وهو يتناقض مع المفهوم الذي أقرته منظمة الصحة العالمية وطبقته دول العالم ألا وهو دمج الخدمات الصحية العلاجية والوقائية.
والمملكة تبنت منذ عام 1407هـ مفهوم الرعاية الصحية الأولية الذي يدمج بين الطب العلاجي والطب الوقائي، وبالتالي فإن الهيكل التنظيمي الحالي لوزارة الصحة لا يواكب المتغيرات التي استجدت على الواقع الصحي محلياً وعالمياً.
6- إن حجم القطاع الصحي في المملكة بشقيه العام والخاص اختلف تماماً عما كان عليه في عام 1403هـ وقت صدور الهيكل التنظيمي الحالي لوزارة الصحة، فلقد نمى هذا القطاع نمواً كبيراً.
ففي عام 1403هـ كان عدد مستشفيات وزارة الصحة (74) مستشفى فقط أما اليوم فإن عدد مستشفيات الوزارة بلغ (194) مستشفى. وكان عدد مراكز الرعاية الصحية الأولية التابعة للوزارة (1084) مركزاً صحياً بينما بلغ الآن (1804) مركز صحي.
كما ارتفع عدد المستشفيات التابعة للجهات الحكومية الأخرى من (18) مستشفى في عام 1403هـ إلى (42) مستشفى حالياً. وكان عدد مستشفيات القطاع الخاص (32) مستشفى في عام 1403هـ بينما بلغ الآن (101) مستشفى، وارتفع عدد المستوصفات الخاصة من (164) مستوصفاً في عام 1403هـ إلى (747) مستوصفاً حالياً.
7- القوى العاملة في وزارة الصحة ازدادت بصورة كبيرة حالياً مقارنة بما كانت عليه في عام 1403هـ. عدد الأطباء زاد من (5223) طبيباً في عام 1403هـ إلى نحو (16000) طبيب حالياً، وعدد الفنيين الصحيين ارتفع من (16654) فنياً في عام 1403هـ إلى نحو 27000فني حالياً.
8- صدور لائحة جديدة للوظائف الصحية في عام 1412هـ تستهدف إيجاد التوازن بين المرافق والأجهزة الطبية والقوى البشرية العاملة القادرة عدداً ومستوى، وظهرت فيها مسميات وظيفية جديدة الأمر الذي يقتضي إعادة تشكيل بعض وحدات الهيكل التنظيمي على ضوئها.
9- تغير أنماط الأمراض Patterns of Diseases والمشاكل الصحية عما كان عليه الحال في عام 1403هـ، حيث أصبحت الأمراض المزمنة عالية الكلفة هي السائدة حالياً مثل أمراض القلب والسرطان والسكري وارتفاع ضغط الدم والفشل الكلوي والأمراض النفسية وغيرها. وهذا يتطلب تبني تنظيم يلبي احتياجات مواجهة هذه المشاكل الصحية المستجدة.
10- ميزانية وزارة الصحة في عام 1403هـ كانت (8) مليارات و (400) مليون ريال، وتشكل (3.2%) من ميزانية الدولة أما العام الحالي فإن ميزانية الوزارة بلغت (14) مليار ريال وتمثل (7.1%) من ميزانية الدولة.
11- عندما وضع الهيكل التنظيمي للوزارة في عام 1403هـ لم تكن قضايا جودة الخدمات وقضايا ترشيد الإنفاق والتكاليف المتصاعدة والزيادة الهائلة في الطلب على الخدمات الصحية، ونظم المعلومات والتقنية الطبية لم تكن تمثل هماً للقائمين على الخدمات الصحية. أما اليوم فهي أمر حيوي في القطاع الصحي.
** ومما سبق تتجلى بوضوح الحاجة الملحة لإعادة هيكلة وزارة الصحة بالكامل. لا يكفي إضافة إدارة هنا أو قسم هناك بل يتطلب الأمر إعادة هيكلة وإعادة تنظيم بصورة شاملة، وفق أسس علمية سليمة.
ولكن بشرط ألا يبنى التنظيم الجديد لتحقيق تطلعات أشخاص وألا يفصّل وفقاً للرغبات بل يبنى لتلبية الاحتياجات الصحية الفعلية للمجتمع آنياً ومستقبلياً.
** وبرؤية علمية وخبرة عملية أقترح (تنظيماً مؤسساتياً) بحيث تتشكل الوزارة من عدد من المؤسسات العامة:
- مؤسسة عامة للمستشفيات.
- مؤسسة عامة للرعاية الصحية الأولية.
- مؤسسة عامة للشؤون الفنية.
- مؤسسة عامة للموارد.
فالتنظيم المؤسساتي يحرر أجهزة الوزارة من ربق البيروقراطية ويمنحها المرونة المالية والإدارية التي تحتاجها طبيعة عمل وزارة تتعلق بحياة بشر، حيث تفرق الدقيقة بل الثانية في إنقاذ حياة إنسان. والتنظيم المؤسساتي ينقل الوزارة إلى مرحلة انتقالية تمهد لمرحلة تخصيص القطاع الصحي، والتخصيص الذي أقصده لا يعني تحميل المواطن أعباء مالية جديدة وإنما يعني الاستخدام الأمثل للموارد البشرية والمادية.
إن إعادة هيكلة وزارة الصحة يمثل ضرورة ملحة بحيث يستهدف التنظيم الهيكلي الجديد تحقيق التالي:
- تحسين الوضع الصحي لسكان البلاد.
- تعزيز جودة الخدمة الصحية.
- زيادة فعالية وكفاءة أداء القطاع الصحي.
- إتاحة الخدمة الصحية بجودة عالية وبطريقة عادلة للجميع Accessibility.
- احتواء التكاليف وترشيد الإنفاق.
- تحقيق رضا المستفيدين من الخدمات الصحية.
- تحسين مستويات التقنية الطبية ومواكبة التطورات العالمية.
- تحقيق اللامركزية.
- خفض الإجراءات البيروقراطية.
- التوظيف المتقن للإمكانيات.
- التحديد الواضح للاختصاصات والصلاحيات وخطوط السلطة والاتصال.
- تحقيق التوازن في نطاق الإشراف للتنظيمات المختلفة وفق أسس علمية بما يحقق الفعالية المطلوبة.
|