يستوقف المرء أحياناً في طريق عودته للمدينة حجم النفايات ومخلفات البناء في الأراضي البيضاء على جنبات الطرق الرئيسة المؤدية إليها، وتثير انتباهه أكثر كمية الأوساخ والفضلات التي تتناثر في المنتزهات والمحميات الطبيعية في مواسم الرحلات البرية، لكنه يصطدم في طريق العودة بتلك اللوحة التي تقف شامخة على حافة الطريق، وكتب عليها: النظافة من الإيمان.
وقد يضرب الإنسان في يوم آخر كفاً بكف، وتنتابه الدهشة عندما يبدأ الطبيب حديثه معه عن ضرورة الابتعاد عن التدخين، وعن أضراره الصحية، وآثاره الخطيرة بالتنفس ، ويظهر في المشهد بجانبه على جدار العيادة في أثناء حديثه صورة لرئة فيها ثقوب وجدرانها تالفة، وشعبها الهوائية مسدودة ، وكتب تحتها: رئة مدخن.. لكن المريض في لحظة تصدمه الحقيقة المؤلمة عندما يظهر في جيب (البالطو) الأبيض الطبي الذي يرتديه الطبيب علبة سجائر.
ويبرز بوضوح تام نموذج آخر لهذا الواقع في سيرة ذلك المدير العام أمام موظفيه الجدد، وفي أحاديثه الجادة عن إستراتيجيته الإدارية الجديدة، وإسهابه في ضرب الوعود لهم بأن الكفاءة والقدرة هي المعايير التي ينظر من خلالها إليهم، وأن التقييم والحوافز في فلسفته الإدارية تعني الإنجازات فقط ، وقد تزداد علامات العجب بصورة أكثر عمقاً لدى المتلقي عندما يبدأ في عقد الاجتماعات الواحد تلو الآخر معهم، وعندما يخاطب موظفيه بلغة أبي بكر عندما تولى الخلافة: قوموني..!، ولكن سرعان ما تظهر علامات الدهشة على محيا المتابع لتلك الصورة عندما يضرب المدير الجديد (بلكمة خطافية) مبادئه المعلنة عرض الحائط بعد فترة قصيرة من جلوسه على كرسي الإدارة، فتجده يميل كل الميل لجعل (الثقة والولاء) العنصر الأهم، وربما الأوحد في معاملاته الإدارية، فيزداد بالقرب منه أبناء الإقليم و(الأقارب)، وينتشر الأحباب حول ردهات مكتبه العامر بالكرم الحاتمي، و بأواصر صلة الرحم لذوي القربى.
كذلك تجد مشاهد حية من تلك الصورة في المجتمع في رجل المرور الذي يسابق الريح في سيارته الفارهة، لكن إذا ارتدى زيه الرسمي في ساعات الدوام وقف بحزم يرصد أولئك الذين يتجاوزون السرعة المحددة بسيارات غير فارهة.. وتظهر بوضوح في ذلك الرجل الذي يحاصر المرأة في كل مكان بالقيود والتقاليد والامر والنهي، بينما هو طليق في مهب الريح، ومتحرر من تلك القيود والتقاليد.
أو ذلك المسؤول الذي يعمل في موقعه الوظيفي من أجل مصالحه الذاتية، فيقبل المكافأة المشروطة من المواطن من أجل تمرير قضيته، ويرسم الخطط، ويكوِّن اللجان من أجل تمرير المنافع والمناقصات والمزايدات إلى منْ يعز عليه، ولكنه على الرَغم من ذلك يرفع على الحائط الذي خلفه تماماً لوحة كُتب عليها: رأس الحكمة مخافة الله..!
أو في ذلك القائد الذي يؤكد دوماً أن الشعب هم الحاكم الفعلي وهو الذي يتخذ القرارات السياسية والاقتصادية في اجتماعاته التي يعقدها في كل مدينة وقرية، بينما تجد وكالات الأنباء في مآسي أبناء شعبه مثال على الصور المؤلمة في تراجيديا البؤس والشقاء، عندما تعرض مشاهدهم الأخيرة غرقى على شاطئ النجاة في إحدى محاولات العبور إلى الشاطئ الآخر.
أو في الزعيم الذي لم يتوقف على مدى عدة عقود عن مهاجمة العدو ، وعن واجب استمرار المقاومة والجهاد ضده حتى النصر، بينما تكشف الأنباء لاحقاً انه في فترات زمنية بين خطبه الثورية كان يقوم بزيارات سرية للقاء زعماء الدولة المعتدية.
أو في موقف ذلك الواعظ المتشدد في قضايا المجتمع، لكنه في الخفاء يمرر فتاوى خاصة.. جداً، قادرة على النفاذ من حصار الفتوى العامة.
وقد يأتيك يوماً في هذا الزمن الأغبر تسقط فيه من يديك أوراق مثقف في خريف الواقع،.. مثقف ألف الكتب وكتب الروايات، ونثر المقالات التي تدعو للحرية، والديموقراطية والتعددية، والمطالبة بالحقوق المدنية وبآليات المجتمع المدني،.. لكنه في أحد أيام ذلك الخريف الفكري يخرج تماماً عن مبادئه القديمة، مبرراً ذلك في لحظة تجلي: كنت ضالاً فأهتديت.
وقد تسمع (أحدهم) عبر القنوات الفضائية يتحدث بحماس من (كهفه) الآمن عن فضل وعظم ثواب العمليات الانتحارية في تفجير المدنيين الآمنين في المجتمعات المسالمة وغير المعتدية عند الله سبحانه، ثم يجد في ذلك المجتمع من يستجيب له بإيمان وخشوع ، لكنه لسبب ما متوقف عن تنفيذ ما يتقن الدعوة له.... إنه بلا شك أحد أولئك الرموز الذين يزخر بهم تاريخنا الطويل، ويتقنون فن السيطرة على عقول الفاقدين للأمل في الحياة الدنيا..! وإنها بالتأكيد أحد أهم مشاهد التناقض والتنافر في عالم يحكمه العنف الفكري والاجتماعي والسياسي منذ قرون.
ولعل وضوح تلك العلاقة المتنافرة بين الخطاب النظري أو الاخلاقي والممارسة الفعلية على أرض الواقع، يعني ببساطة شديدة أن البيولوجيا البشرية شديدة القوة، شديدة التسلط، شديدة الانحياز إلى الغريزة، ويمكنها ان تعيش وتزدهر عندما تغيب سيادة (القانون) على الجميع، لتحكم بقمع من يحيط بها من خلال تلك السلطات الاخلاقية أو النظرية، ويمكنها أيضاً ان توهم الجميع بنجاح أنها تؤمن عن قناعة مثلاً ان النظافة من الإيمان، لكن واقع الأمر أبعد ما يكون عن ذلك.
إنها أيها السادة تلك النزعة الخبيثة إلى التحرر الذاتي من القيود، ولكن في الوقت نفسه العمل على فرضها على الآخرين الأقل قدرة أو قوة، فتستبد بالأضعف، لتنطلق في جو من الحرية غير المقيدة تماماً، ثم تعمل ليلاً ونهاراً من أجل محاصرة الآخرين بالقيود التي تكسرها كل يوم وكل ساعة وكل دقيقة،.. وهو مايؤدي بها في النهاية إلى فردية مفرطة، وإلى نوع من المجزرة الذهنية للأغيار من البشر في المجتمع، وإلى فوضوية تجعله يبحث بلا قيود في حياتِه اليومية فقط عن تلك اللذة الأنانية والقاسية أحياناً على الآخرين ، وهو لا يدري أنه بذلك يصبح حينئذٍ مكرَّسًا للصراع البيولوجي لما نسميه الحرية المطلقة بمعانيها البدائية، والمتوحشة بشقيها الرمزي والاقتصادي، والتي لا يهم فيها إلا النجاح الفردي الصرف، وإن كان على حساب الآخرين جميعًا....
|