* القريات - مكتب الجزيرة:
لم تكن بعيدة عن أجوائنا الشتائية.. ولم تكن هذه (الفيروز) تخاطب الحلم حين تشدو للثلج وحين تصافح آذاننا كل صباح (كانوني) بإطرابها الشجي. في ملاطفتها نرجسية حالمة وفي نغمات صوتها خرير الماء المتدفق بحنو ليغسل اجساداً التصقت بها أدخنة المواقد. في همهماتها.. تأتيك (فيروز) حاملة أنفاس الشتاء مطلقة لبلابل شدوها فضاءات تغرد فيها كلما أطربتها نسائم الصباح المكللة بقطرات الندى بل هي تجسد واقعاً شتائياً نمارس معه حياتنا الاعتيادية.
ها هو كانون يختطف دفئنا ويعانقنا بالصقيع ويصافح أطرافنا ب(الشلتا) ويثقل أجسادنا (بالفروة والمكسر والكبوت). إنه كانون (عز الشتاء) وقلبه موسم الثلج حيث يلثم تلالنا بياضه النقي. ثلج يكسو التلال ويشيع في الأنفس النقاء والبياض والتجديد. وهواء مشبع برائحة الماء ورائحة الأرض نستنشقه.. نتذوقه يقول شاعر عن بياض الثلج على مرتفعات القريات.
من الكتب لنعيج لأبو غريسة
وغريفة السمراء صارت بياضي
تزينت بالثلج وصارت عريسة
وغطى جلدها مع جميع الفياضي
انه شتاءنا رغم صقيعه القارس يظل له طعمه ومذاقه وأجواء احتفالية لها صور تشعرنا بالتجديد والتجدد.
ها هو الشتاء بقضه وقضيضه زائر له احتفاليته وله طقوسه.. ويمنح الليل ساعات اقتصها من نهارنا ليلبسه أثواب الوقار.. وها هو الليل الشتائي يصبح مرسى للباحثين عن الأنس. اعطى الشتاء لليل صورة تركها الراحلون ذكرى في مجالس لا تترمد مواقدها.. والمواقد تعطي للحاضرين متعة السهر.. ما بين مصالاة النار وتحضير المعاميل واعداد القهوة بدءاً من حمسها وطحن الهيل والساهرون يتحلقون ويحلقون في فضاءات تشد السامعين.. ما بين قصة وحكمة وقصيدة لها دلالاتها وأدخنة الغضا والرتم عطر للمكان وللحضور صقيع ونسمات (سيبيرية) تقض أطراف الجسد لكن دفء القلوب يمنح المكان دفئاً.
شتاءنا تحضّر أو هو حُضّر بما هيئ وما وفر في مجالس الأنس وهي بلا انس ومواقد دفء بلا دفء. فما بين (المواقد الحديثة) التي لا ترى فيها دخان النار ولا رائحته وقهوة تقدم حاضرة ب(الحافظة) وحليب بالزنجبيل وتلفزيون سرق من الحضور أنس المسامرة و(بلوت) أضاع وقتهم ما بين (الصن) وبنت السبيت ونغمات الجوال المتصاعدة تقطع الصمت لحظة إنصات لخبر مزعج أوردته إحدى الفضائيات.. بين هذا وذاك ترى المجالس باردة والمشاعر ابرد من (كانون) فأين مجالس اليوم من مجالس الأمس والتي وصفها شعراً الأستاذ إبراهيم حبرم بقوله:
سقى الله ذكرى ليالي الشتاء
وبرق يضيء ظلام السحب
وذكرى ليال مجالسنا
وقد جاء خادمنا بالحطب
ويوقد نارا بها نصطلي
فيسري بنا دفؤها المستحب
ويبدأ في دندنات خفاف
يلمّع دلته كالذهب |
إلى أن يقول:
ويبدأ توافد جيراننا
إلى مجلس يحتويه الأدب
ويظهر ان عباءاتهم
يبللها المطر المنسكب
يدل ابتهاج به أنة
علامة خير ورحمة رب
يدير الغلام فناجينه
ويتعبها (شاهيا) يختضب
وكان السراج يساهرنا
يساعده ضوء بعض اللهب
أين هي الصورة اليوم.. |
* معنى كلمة (الشلتا) وهي باللهجة الدارجة وتعني (قارسة البرودة).
وحار ودفء ومعاميل.. وأنس.. ان يجالسنا اليوم منها؟.
|