طلعت الشمس بنور ربها وأرسلت أشعتها الذهبية على الكون وقام الناس من نومهم فرحين مسرورين بيوم جديد يبدأ فيه كفاحهم من أجل حياة أفضل.
وخرج (ابو محمد) نعم هذه التسمية التي اعتاد على سماعها من سكان حيه ذلك الحي الذي ولد فيه وترعرع حتى بلغ من العمر عتيا.. لقد كان مشهوراً بين جيرانه في الحي بالتقوى والأمانة وكثيرا ما يرجعون اليه في حل مشاكلهم وكان بدوره لا يبخل عليهم وكان باب منزله مفتوحاً رغم أحواله المستورة ولكنه كان شديد الإيمان بالله عز وجل وانه ما بعد عسر الا يسراً.. حتى اطفال الحي عندما يشاهدونه مقبلاً عليهم من بعيد يأخذون في التجمع من حوله فقد عهدو منه كل حب ورعاية على قدر عقولهم وبراءتهم.. يا له من شيخ كريم طيب القلب دائماً وابداً البشاشة لا تفارق محياه.. لقد كان أبو محمد يملك دكاناً متواضعاً فيه بعض الحاجيات مثل الارز والسمن وبعض المعلبات وكان معظم بيعه بالاجل.. لانه كان يعرف أحوال أهل قريته المادية وظروفهم التي لا تساعدهم على السداد في الحال ورغم ذلك كان اهل القرية أوفياء معه إذ إنهم في آخر كل شهر يحضرون إليه ويسددون ما عليهم من دين فهم أيضا يعرفون ان (ابو محمد) يحضر هذه الأشياء من المدينة بالاجل وحسب معرفته عند الآخرين وامانته والعلاقة التي تربطهم به من قديم وكان في معظم الاحيان يجتمع عنده في الدكان بعض من أصحابه تأخذهم الذكريات للوراء قليلا أيام كانوا في عز الشباب.. يا لها من ذكريات جميلة وأيام سعيدة.. أيام كان الوفاء والطيبة والتسامح والوقوف مع البعض في اشد الظروف .. واحياناً كانوا يجتمعون في القهوة القريبة من الحي يتسامرون ويشاهد كل منهم الآخر وإذا تأخر احد منهم اخذوا يسألون عنه.. بعكس وقتنا الحاضر.. الجار لا يعرف عن جاره شيئاً حتى اسمه.
لقد كان (ابو محمد) رب أسرة تتكون من أم محمد.. والابن محمد وهو اكبر الابناء.. ثم يأتي بعده اخيه عبدالله ثم شقيقتهم الصغرى ابرار.. كانت اسرة سعيدة.. وقد كانت أم محمد نعم الزوجة الوقور الطيبة القلب كريمة الخلق لا ترد محتاجاً ولا تغلق الباب في وجه طارقه، وقد كان يشغل باله عدم وجود مدرسة في القرية .. وذات يوم اجتمع بأهل القرية لأخذ رأيهم في موضوع فتح مدرسة في القرية يتعلم فيها ابناؤهم بالاجماع وافقوا وفرحوا.
وفي اليوم التالي ذهب ابو محمد إلى المدينة وقابل المسؤولين وقدم لهم طلبه.. لم يقصروا معه لبوا طلبه وساعدوه في اسرع وقت وعاد إلى القرية حاملاً معه البشرى.. فتحت المدرسة واخذ ابناء القرية الذين لا يزيد عددهم على المائة طالب يتوافدون على المدرسة منذ الصباح الباكر.. وكانت سعادة الآباء والامهات لا توصف وهم يشاهدون فلذات أكبادهم يتجهون في مجموعات إلى المدرسة ايمانا منهم ان هؤلاء الأطفال الصغار هم رجال الغد.. ففيهم ان شاء الله من سيكون المهندس والطبيب الذي يعالج المرضى والضابط الذي يسهر على حماية حدود وطنه، والمدرس الذي يخرج الأجيال المتعلمة.
لقد كان (أبو محمد) يحلم بهذا اليوم الذي هو أسعد يوم عنده عندما يشاهد ابناء قريته وقد شقوا طريقهم في الحياة ومن ضمنهم أبناؤه.. إنه رجل وهبه الله قدراً كبيراً من الحكمة والدراية لذا فهو يؤمن ايماناً تاماً ان العلم سلاح قوي في ايدي اصحابه يستطيعون من خلاله ان يشقوا طريقهم في الحياة
كما قال الشاعر:
بالعلم يبني الناس ملكهم
لم يبن ملك على جهل وإقلال
آه ما أكثر الأيام الشقية وما أقل الايام السعيدة كما قيل فجأة وبدون مقدمات او سابق إنذار وإذا بالموت يخطف ابو محمد من بين اسرته المسكينة وإذا بالقرية تنقلب عاليها سافلها..
نعم لقد مات (أبو محمد) لا حول ولا قوة إلا بالله.. لقد فقد علم من أعلام القرية البارزة.. لقد اخذ أهل القرية يتوافدون إلى منزل المرحوم.. أبو محمد ومواساتهم في فقيدهم الغالي.. لقد حزنوا حزناً شديداً على فقدان هذا الرجل الطيب ولكنهم في نفس الوقت يؤمنون ايمانا تاماً ان الموت لابد منه..
تمضي السنون ويكبر الابن محمد وتكبر معه أفكاره وطموحاته.. وذات ليلة وهو جالس لوحده أخذ يفكر أنه الكبير في الاسرة والعين عليه وإخوانه الصغار يرجون على يديه الخير كل الخير بعد الله عز وجل ولكن ماذا يعمل وهو بعد لم يبلغ سن الخامسة عشر من عمره.
وكان محمد طالباً مميزا بين اقرانه في المدرسة حيث حصل على الشهادة الابتدائية بتقدير ممتاز.
وذات ليلة تسلل دون ان تشعر به أمه وخرج من المنزل واخذت الافكار تلعب به ذات اليمين وذات الشمال.. عاد مرة ثانية إلى منزله ولكنه قبل ان يدخل سمع أصوات اخوانه الصغار يسألوا امهم (أماه) غداً العيد من الذي سوف يحضر لنا الملابس ومتى نذبح الخروف؟ يا لها من كلمات قاسية على قلب تلك الأم المسكينة.
نعم لقد كانوا في الماضي لا يعرفون عن الحياة سوى انها لعب ولهو مع الاصحاب والذهاب إلى المدرسة، لقد كان والدهم يحضر لهم كل شيء بدون ان يعرفوا من اين وكيف.. مسكينة تلك الأم ماذا تقول لهم؟ لقد قالت اصبروا سوف يحضر أخوكم محمد ومعه كل طلباتكم.. لم تكن تعرف ان ابنها محمد يسمع كل هذا الحوار بين اخوانه وامه.. تسلل إلى غرفته وفي اليوم الثاني.. فاتح امه قائلاً: أماه انني أريد أن اعمل، دهشت امه من كلامه وقالت: له كيف تعمل وأنت في هذا السن؟ قال لامه: لا تخافي سوف اذهب إلى المدينة وهناك ان شاء الله سوف اجد عملاً مناسباً واواصل الدراسة في المدارس الليلية فالحكومة لم تقصر حيث فتحت المدارس الليلية.
لم تستطع الأم ان تقف أمام إصرار ابنها.. وفي اليوم الثاني ذهب محمد إلى المدينة بعدما زودته امه ببعض النصائح واعطته بعض عناوين اصدقاء واصحاب والده لعل وعسى ان يجد عندهم عوناً ومساعدة بعد الله عز وجل.. اخذ يبحث عن عمل حتى وفقه الله واشتغل عند صاحب متجر لبيع المواد الغذائية .. لقد كان محمد مخلصاً في عمله وأميناً الامر الذي جعل صاحب هذا المتجر يأتمنه على كل شيء وتقديراً لهذه الأمانة سمح له أن يواصل دراسته ليلاً.. نعم لقد كان محمد باراً بأمه واخوانه لقد كان لهم الابن الوفي.. وذات يوم واذا بصاحب المتجر يسأل بعض اصحابه.. لم نسمع خبرا عن صاحبنا أبو محمد إن له مدة طويلة لم يحضر لنا كالعادة.. لقد اخذ هذا السؤال يسري في جسم محمد كالتيار الكهربائي وبعدما انصرف الزبائن من المتجر.. سأل عمه قائلاً: اتسمح ان اسألك.. قل ما تريد يا محمد كلي اذان صاغية.. قبل قليل قلت ان لك صاحباً اسمه ابو محمد لم تسمع عنه شيئاً من مدة طويلة.. هل تستطيع ان تصفه.. اندهش صاحب المتجر من كلام محمد: نعم يا ابني استطيع وصف ذلك الشيخ لك انه رجل سمح الأخلاق امينا في تعامله كان يحضر إلي هنا في هذا المتجر ويأخذ بعض المواد ويدفع مالديه واسجل الباقي عليه وكان يسكن في القرية الفلانية.
يا الله اتدري من هو هذا الرجل انه والدي.. لقد اصبح محمد كل شيء في حياة صاحب المتجر وخصوصاً بعد ما علم انه ابن صديقه.. واصل محمد عمله مع الدراسة الليلية واصبح شاباً متعلماً وقرر ان يحضر والدته وإخوانه بعدما اشترى لهم منزلاً وكل عيد يحضر لهم خروفاً قائلاً هذا هو خروف العيد..
|