تُعَدُّ الغرامات جزاءات تعزيرية يُقرُّها ولي الأمر لمعالجة ظواهر وأفعال مخالفة لا ترقى طبيعتها إلى معالجتها بالعقوبات البدنية أو العقوبات السالبة للحرية. وهذه الغرامات تحررها جهات حكومية خدمية عديدة؛ من أبرزها: البلديات والمرور ووزارة الصحة ووزارة المياه وغيرها مما ليس مقصدنا هنا حصره.
والمتابع لطبيعة هذه الغرامات وطريقة فرضها يجد أن هناك خللاً واضحاً يضعف تحقق العدالة والموضوعية عند إقرارها بحق المواطن أو المقيم. ولترتيب سياق الحديث عن ذلك فسأضعه في عناصر محددة أحاول من خلالها تسجيل موقف ناصح أحسب أنه سيساعد على ترشيد إيقاع هذه الغرامات بما يحقق المقاصد المرجوة من تقريرها، ويتفادى النتائج السلبية التي قد تحل بسبب المبالغة والتعسف الحاصل في واقع الحال معها، وسيكون ذلك على النحو التالي:
1- إن التصدي للبت في المخالفات التي يترتب على إثباتها غرامات مقدرة يُعدُّ عملاً قضائياً يتطلب استيفاء الشروط اللازمة لمَن يمارسه تأهيلاً ومهارةً. إلا أن الواقع يؤكد أن المنظم اعتبر ذلك عملاً إدارياً بحتاً يمارسه إداريون قد يفتقدون في الغالب لأبجديات العمل القضائي الشرعي، بل قد يكون بعضهم لا يحمل أي تأهيل علمي يمكنه من إدراك المقاصد العليا من تقرير هذه الغرامات، فيتعسف في المبالغة بإيقاعها على المتهم على محمل يفهم من خلاله أن محصلة الأمر ليس إلا للعقاب والتحصيل المالي فحسب، دون النظر للمقاصد الأهم المتمثلة في الردع وتهذيب السلوك المجتمعي في المقام الأول.
2- بعض الغرامات تقدر بمبالغ كبيرة؛ مثل: بعض غرامات مخالفة البناء، وإتلاف بعض الممتلكات العامة في الحوادث أو غيرها. والقرار بالغرامة قرار فردي ونهائي يلزم مَن أوقع عليه أن ينفذه ويسدد الغرامة دون إتاحة أي خيار آخر له للتظلم أو إعادة النظر، باستثناء بعض الغرامات البسيطة؛ كغرامة تسرب المياه أو الغرامات المقررة نتيجة مخالفة مرورية، والتي هي في المحصلة النهائية لا تتيح التظلم أمام جهة ذات صفة قضائية، بل يكون ذلك أمام الجهة التي أوقعت المخالفة وقدرت الغرامة. وهذه مفارقة عجيبة تدل على عمق المشكلة وخطورة التمادي في تركها على هذا المنوال. وهذا يمثل إخلالاً صارخاً بالعدالة؛ حيث إن المتهم بالمخالفة يعد الطرف الأضعف في الدعوى مقابل سلطة تنفيذية هي الخصم والحكم والمنفذ في آنٍ واحد.
3- إن كثرة الغرامات واللجوء إلى إيقاعها دون أي تدرج عقابي حسب الأصول الشرعية للجزاء يضعف مصداقيتها وأثرها المقصود، فتتحول إلى جباية للمال، مما يرهق المواطن ويولد لديه شعوراً بالتسخط من الجهات الرسمية، إضافة إلى دوره السلبي الحاد في إضعاف الحس الوطني إذا وصل إلى حدٍّ لا يُطاق.
4- إن المبالغة في إيقاع الغرامات بحدها الأقصى، وتعدد الجهات التي تحكم بها دون أن تصطبغ بالنظر القضائي، يدفع الناس إلى اللجوء للتحايل للإفلات منها أو تقليل مقدارها بدفع الرشاوى أو المحسوبية، مما يفسد الموظف والمواطن على حدٍّ سواء.
5- إن إصلاح هذا الوضع يتطلب إعادة النظر وبشكل جذري في آليات وإجراءات إيقاع مثل هذه الغرامات، وذلك بإعطائها الوضع الطبيعي الموافق لماهية عملها القضائي، بأن يُسند النظر فيها إلى هيئات شرعية ذات صفة قضائية يشرف عليها سلطة قضائية أعلى تنظر في مسائل الاستئناف والتظلم إذا وصل حجم الغرامات إلى مبالغ كبيرة، مع اعتماد التدرج العقابي بالإنذار والتعهد، ثم إيقاع العقوبة بالغرامة في مرحلة تالية بمقادير تتناسب مع حجم المخالفة والظروف المصاحبة، سواء كانت ظروفاً مخففة أو مشددة عند تكرار المخالفة أو جسامتها، حتى تتحقق المقاصد المطلوبة من تنظيم هذه الجزاءات المالية دون إرهاق للمواطن بما لا يطيقه، وحتى تتوفر القناعة لدى الكافة باستيفاء جميع إجراءات التقاضي المحققة للعدالة مهما كانت المخالفة يسيرة وعقوبتها خفيفة كونها تبقى في نطاق الجزاء المؤلم.
6- إن تيسير إجراءات توجيه الاتهام بارتكاب مخالفة ما، وبالتالي إعطاء الشخص المتهم بارتكاب المخالفة فرصة لتنفيذ الاتهام بيسر وسهولة دون أي عوائق، قد تجعله يضطر لاختيار تسديد قيمة المخالفة من أجل تجنب الدخول في سلسلة من الإجراءات الطويلة والمعقدة حتى يصل إلى القناة الإدارية التي تسمع اعتراضه دون ضمان حصوله على الإنصاف المأمول، يعد نتيجة حتمية لتجذر البيروقراطية في مؤسساتنا الرسمية التي تم اقتباسها من بعض الدول العربية بواسطة مَن تم الاستعانة بهم من مستشاري تلك البلاد أثناء مرحلة البناء الإداري الأولى، ومع أنه حصل إصلاح لبعض هذه الإجراءات إلا أن بطء التطوير مكَّن لبعض هذه المظاهر البيروقراطية حتى أضحت جزءاً من حياتنا الإدارية التي يحتاج الخلاص منها خطًى حثيثة وجادة نحو تطبيق أساليب الإدارة الحديثة التي تختصر خطوات إنجاز العمل الإداري إلى الحد الممكن مستفيدةً من التطور الهائل في الأجهزة التقنية التي تجعل العمل الإداري أكثر انسيابية وإنتاجية وفي زمن قياسي يتناسب مع حاجة الناس للاستجابة لحاجتهم بالسرعة الممكنة في توفير الخدمات لهم دون عناء بالغ، فما بالك إذا كان التأخير والمشقة مصحوبةً بمطالبات لا تنقضي بغرامات يشوب تحصيلها قصور في التقدير وتفاوت في الحكم، مما يحتم ضرورة المراجعة الشاملة لهذه القضية. وأحسب أن مجلس الشورى الموقر بلجانه المؤهلة جدير بالاضطلاع بدراسة هذا الوضع والوصول إلى المعالجة المناسبة بما يحقق المصالح ويدفع المضار عن البلاد والعباد.
والله الموفق..
ص.ب 31886 الرياض 1141 /فاكس 4272675 |