غثيان، وهذه الأسئلة تُطرح بسذاجة ذلك الذي رأى السراب فصرخ ماءً... ثم ما لبث أن عبر ولم يجده... أو حرقة جوع التَّائه الذي رأى زُوَّادة معلقة في شجرة حيث لا ماء ولا غذاء فلهث إليها فإذا الريح تعصف بداخلها والخواء...
غثيان، وهذه الأسئلة تتلاحق في غير تمعُّن: لماذا هي كاسدة بضاعة الجيل من الثقافة والوعي والمعرفة؟! وتارة يُزجَّ الأمرُ في (رقبة) المناهج، وتارة في أعناق الوالدين، وتارات تتناثر بما في الأفواه من رذاذ يتطاير وما يلبث أن يجف... غثاء، والطاحونة تلف، تلف وثمَّة دوار بقهر، ودوار بقهر... كيف ينهض الفراغ ليملأ الفراغ؟
وكيف يستوي العود بعد أن أضرمت فيه النار؟!
وهاكم بين يدي مجموعة من كتب التعليم قبل نصف قرن، وهاكم كتب التعليم في القرن الواحد والعشرين!
أيُّ ضحالة هذه، والشباب يُصوِّتون بالملايين لنجوم المُسْتهلك من الفن ويقفون (طوابير) ليأخذوا أماكنهم في (مسابقات) الأضواء، ويلهثون في متابعة (في الهوا سوا) و(هيك بدها عليا)، و(ستار أكاديمي)؟! أي نجومية (أكاديمية) بائسة في وقت يتسابق القوم لحجز مقاعد على الطائرات عن طريق جميع الخطوط المتاحة، ولحجز حجرات وإن كانت في (بنسيونات) لا في (الفايف ستار) من الفنادق الكبرى أو في شقق مفروشة أو حتى غرف فوق الأسطح لحضور (تظاهري) في بيروت لملتقى (أقطاب الفكر) التربوي؟!
أيُّ مهازل هذه التي تدرُّ في النفوس الحسرة، وتبعث الألم، وتحرك الشعور بالغثيان...
وأقارن بين معلمي السنة الهجرية الخامسة والعشرين من القرن الخامس عشر الهجري والرابعة بعد الألفين الميلادية وهم في برنامج مثل (سوبر ستار) أو (ستار أكاديمي) بوصفه عمَّ وشمل وسحق وحرق، فهو برنامج تعليمي حي ناطق قائم بالأدوار مفتوحاً للعيان معروضاً للبيان ممثلاً للتوجه المعرفي في هذا الزمان مدرباً للمهارات الكامنة لموهوبي العرب في كلِّ البلدان!!
وبين كتب مناهج تعليمية لطلاب الصفوف الابتدائية على سبيل المثال لا الحصر وُضعت ودُرس محتواها قبل نصف قرن من الآن عناوينها تدل على محتواها: (الأصول الثلاثة وأدلتها ويليها القواعد الأربعة) (محفوظات البنات) تبدأ بحلقات من الصف الثاني وما يليه تتضمن من المحتوى منتخبات لتنمية مهارات الإدراك والفهم والاستيعاب وتنمية الوجدان على الإيمان والولاء للدين والتطلع إلى الحياة لبنائها والمساهمة في عمارها وجمالها... كما هناك كتب لتنمية الذوق وللوقوف على العِبَر وخُصِّص لها فن (القص) وهو الذي بلغه متأخرو المنهجيين في التعليم بعد أن سبقهم إليه هؤلاء القوم العرب المسلمون، ففي منهج القصص للجيل الجديد (أمي) لعبدالله عبدالجبار يقول: (ولقد كانت القصة -ولا تزال- إحدى الوسائل الفعَّالة لتربية النفوس، وشحذ الهمم، وإيقاظ الوعي.. ولقد تخيَّرناها لتكون أداة لبعث روح العزة العربية والكرامة الإسلامية...) ناهيك بكتاب (القراءة الصوتية والكتابة) لطلاب روضة الأطفال الذي وضعه في مصر (عبدالله أمين) ناظر مدرسة... تلك نماذج المحتوى القِيَمي ذي القيمة والهدف في منهج التفكير التربوي الذي سلف...
فأين هذه الروح التعليمية، والهمَّة التربوية، وأين منَّا المدراء الذين يصنِّفون كتباً تُدرَّس، أو يُنشؤون أساليب تُقتدى... إذا كان تعليم الشباب المسلم الآن وبث روح الهمة فيه والحماس بما هو أنموذج في برامج الفضاء التي عمَّت فأفسدت، وزاد عنها ضياع الضياع في متاهات الشباب التي مهما تجمع القوم فإنَّهم يقولون ما لا يُفعل...
والغثيان يشتد
وثمَّة دوار... دوار.
|