مدخل
في دراسة سابقة نشرت بجريدة الجزيرة تحدثت عن رواية (دفء الليالي الشاتية) للدكتور عبد الله العريني تحت عنوان (ميلاد روائي مسلم)، باعتبارها عمله الأول، وقد أشدت بتوجهه الأخلاقي الإسلامي وهو يتعامل مع قضية المرأة والعلاقة بينها وبين الرجل، مقارناً بين ما نجده في هذه الرواية من عفة وتعفف، وبين روايات أخرى، تتخذ من الجنس المكشوف وسيلة لتجسيد هذه العلاقة، وهو اتجاه دفع إليه الفهم غير السوي عند بعض الكتاب لجانب من آراء فرويد من ناحية، ومفهوم الواقعية الحرفي من ناحية أخرى.
كما كانت لغة (دفء الليالي الشاتية) بحاجة إلى مزيد من اهتمام الكاتب بلغته وتطويرها، لتحقيق نسيج فني متناسق يشكل الرواية.
وها هو ذا د. عبد الله العريني يقدم للقارئ عمله الروائي الثاني (مهما غلا الثمن) محققاً نقلة فنية متميزة في تشكيل بناء الرواية، وتجلي نسيجها اللغوي المتآلف المتناسق إلى حد كبير، مع استمراره في تحقيق مستوى أخلاقي متميز أيضاً لعلاقة الرجل بالمرأة من حيث العفة والتصون ومعالجته لهذه العلاقة من مدخلها الشرعي وهو الزواج، برغم ترائي الحب كرابط إنساني وجداني بين الزوجين، يضاف إلى ذلك شمولية التناول الفني لكثير من قيم الإسلام ومبادئه كالإيمان بالله والقضاء والقدر، والحث على كثير من العبادات في الإسلام كالصلاة والحج وغيرهما، بل والدعوة إلى كثير من الأخلاق كالصبر والأمانة والإخلاص في العمل، وغالباً ما يتحقق كل ذلك بصورة عملية تناقش قضايا المجتمع المسلم سواء في السعودية أو إندونيسيا، وبطريقة روائية غير مباشرة في معظم الأحيان، تستهدي القرآن الكريم وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بجانب تعميق الكاتب لاتجاه وضح في روايتيه كلتيهما وهو المقارنة بين الحياة الشرقية في ظل الإسلام وحياة الغرب في ظل ماديته، كما يحث على وجوب التعاون بينهما في طريق الخير (1).
البناء الروائي في (مهما غلا الثمن): الحدث:
تشكل كلمة (الثمن) بدلالتها اللغوية بنية هذا العمل الروائي كما تجلى عناصره الفنية، إذ تكشف بمحوريتها عن (الحدث) الذي يتمثل فيما يمكن أن يقدمه الإنسان لتحقيق آماله وطموحاته' واقتران ذلك بالصبر. فهل هو (الكنز) الذي ينفق منه (أندي) بطل الرواية، كما أنفق منه أبوه الحاج مأمون من قبل، بعد أن تعلم هذا الدرس في مجلس التعليم في قريته، وعلمه لابنه (أندي)، أم أن هذا (الثمن) يتمثل في التآمر والظلم والنهب كما في مسلك (سودرمان) الشرير الذي اشعل الحريق في مستودعات شركة السيد غزالي بعود ثقاب، برغم أنه هو أمين المستودعات لهذه الشركة، واتهم أندي بذلك في بداية الرواية، فسجن ظلماً، حتى تجلت حقيقة تآمر سودرمان وأدخلته شركة التأمين السجن في نهاية الرواية، بل إن هذا الأخير على استعداد لاستخدام عود الثقاب وسيلة لإحراق مساكن الفقراء التي تجاور مستودعات شركة السيد غزالي، حتى يهربوا منها، وبالتالي يستولي السيد غزالي على الأرض مقابل عشرة ملايين روبية لسودرمان، يصر عليها أجراً لما يقدمه في هذه الصفقة الشريرة، التي رفضها السيد غزالي، بعد ما نجح أندي بإخلاصه وخيريته في إقناعه بالابتعاد عن هذا الشر، وتنفيره منه، وتحويله إلى عمل خيري تمثل في اقتراحه أن يبني السيد غزالي عمارتين على أرض يمتلكها في المكان نفسه، ثم يوزع ما بهما من شقق على بعض هؤلاء الفقراء، وهي ذات مساحات صغيرة، وقد هيأتها بأساسيات البناء، وذلك في مقابل تنازلهم عن المساحات التي يمتلكونها بجوار شركته، ويعيشون فيها داخل عشش لا تليق بكرامة الإنسان، ولا تحقق له أدنى مستوى حياتي، ودون لجوء إلى حريق أو إشعال النار في هذه العشش، مما جعل السيد غزالي يجعله أقرب المقربين إليه، ويكافئه بمنحه إحدى الشقق ملكاً له، فيحقق له أملاً عزيز المنال، خاصة وهو في بداية حياته الزوجية.
وقد دفعه ذلك إلى مزيد من الإخلاص والولاء، وجعله وزوجته سارينا يقدران هذه المكافأة خير تقدير، ويدركان أن الإخلاص والجد والاجتهاد والصبر هي (الثمن) الذي به تتحق الآمال والطموحات، وبذلك تتجلى قيمة الخير كفعل ورد فعل من أهم القيم الإسلامية التي تبرزها هذه الرواية خلال الحدث، وهذه (النهاية الخيرة) في الوقت نفسه تعلي من التوجهات الإسلامية لهذه الرواية، وهي تنتهي نهاية سعيدة تبعث التفاؤل والبهجة.
وتتعدد صور السعي والكفاح التي تتآزر مع ما يبذله (أندي) في هذا المجال للكشف عن (الثمن) الذي يقدمه الإنسان لتحقيق ما يأمله، ذلك المحور الأساسي الذي يشكل عصب هذه الرواية، مثل عمل (إيبو فضيلة) والدة أندي مديرة لمنزل السيد (زين العارفين) في جاكرتا، لمدة ثلاث سنوات حتى تُخلِّص زوجها الحاج مأمون من دَينه، وترجع له بصك السداد النهائي، وتلك فضيلة تحسب لهذه الشخصية، وهي جزء من اسمها (بعلميته)، وقد حقق لها رب المنزل أمنية طالما تمنت تحقيقها، ولكن ضيق ذات اليد كان قد حال بينها وبين ذلك، حتى كافأها السيد زين العارفين بوعده لها أن يتحمل نفقات أدائها لفريضة الحج، وما أعظمه من ثمن مقابل ما بذلت من جهد وإخلاص في حسن إدارة منزله.
كما تشكل علاقة أندي (بنور حياتي) ابنة جيرانهم في القرية وأخت (بجو) صديقه، صورة أخرى من صور الكفاح الكاشف عن (الثمن) الذي به يحقق الإنسان طموحاته، وقد ربطت بينهما علاقة حب، وإذا كان أندي يعمل داخل إندونيسيا في جاكرتا، فإن نور حياتي قد ذهبت للعمل خارج إندونيسيا، خادمة في المملكة العربية السعودية بأحد البيوت، مما جعل الكاتب يعرض كثيراً من تقاليد وأعراف البيت السعودي، وعلاقته بالخادمة الأجنبية، في صورة مثالية، يعوزها الواقع والكشف عن سلبياته ومتغيراته.
ولقد كانت (نور حياتي) مثالاً للإخلاص والطاعة والتقوى في بيت مخدومها، وكان طبيعياً أن تكون محل تقدير كل من في البيت، وأن تكافأ بالهدايا في مقابل ذلك، بل لقد عرضت على أندي أن يجيد قيادة السيارات ويحصل على ترخيص بذلك حتى يعمل بالسعودية معها، ويتزوجا هناك، وقد عرف هو ذلك من خلال أربع رسائل كتبتها نور حياتي لأسرتها، وقد شغله التفكير في مستقبله في ضوء هذا العرض، على أمل أن يجمع قدراً من المال لينشء محلاً لتصوير المستندات، لكنه قرر أن يستمر في العمل بشركة السيد غزالي في إندونيسيا، وأن يظل قريباً من والديه.
وبرغم أن اسم (نور حياتي) بدلالته اللغوية وعلميتها قد شكل علاقة أندي بها، خاصة عندما ربط بينهما الحب، لكن سفرها دون معرفته، وابتعادها عنه، ورفضه لفكرة العمل كسائق في المملكة العربية السعودية، وتوقعه عودتها وقد تغير مستواها المادي على الأقل بالنسبة له، وحرصه على عدم تأجيل الزواج رغبة في العصمة، وحفاظاً على نفسه في مواجهة ما في الحياة من فساد (2)، كل ذلك جعله يعيد النظر في علاقته بها، بل سريعاً ما يقرر نسيانها (ويغلق ملف ذلك الحب إلى الأبد) (3).
من ثم كان اختياره لسارينا الكاتبة بمدرسة الباقيات الصالحات، وزواجه بها بعد استشارة والدته.
الشخصيات
هكذا يسهم (التقابل) بين الشخصيات في تشكيل بنية هذه الرواية، فنجد (أندي) شخصية ثرية فنياً، متعددة الأبعاد اجتماعياً ونفسياً، بما يجعلها تحمل كثيراً من القيم الإسلامية التي أناطها الكاتب بروايته، فهو لم يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير أبداً، سواء بالنسبة لعمله في شركة السيد غزالي بجاكارتها وما فيها من موظفين، أو مع جيرانه في القرية التي نشأ بها، وكذلك بالنسبة لوالديه. بينما نجد سودرمان شخصية تحمل لواء الشر ضد كل من يتصل به سواء كان أندي، أو مساعد سودرمان نفسه (أغوس)، بل إنه لم يمحض السيد غزالي النصيحة، عندما حاول أن يورطه بإيقاعه في الشر عندما عرض عليه مشروع إحراق عشش الفقراء المجاورة لمستودعات الشركة.
لكن الرواية في مقابل ذلك تقدم كثيراً من الشخصيات التي تربطها بأندي علاقة (تماثل) في فعل الخير والرغبة في تحقيقه، كالسيد غزالي مدير الشركة، وهو يرعى موظفيه المخلصين، كأندي عندما كافأه بشقة ملكها له، ومعاونته له في علاج والده، وكذلك دفعه الكفالة (لدونو) وهو أحد سائقي شركته عندما صدم طفلاً بسيارة الشركة التي يقودها، بل أشرف على علاج هذا الطفل في المستشفى حتى يبرئ ساحة السائق المخلص.
بالإضافة إلى السيد (زين العارفين) صاحب البيت الذي تعمل فيه والدة أندي، عندما كافأها بتحمل نفقات الحج، وكذلك والدة أندي نفسها وهي تترك زوجها في القرية، لمدة ثلاث سنوات، لتعمل في جاكرتا لسداد دين زوجها، برغم ما في ذلك من مثالية، قد لا يؤيدها الواقع.
وكأني بكثرة النماذج الخيرة يستحث الكاتب المتلقي على فعل الخيرن وتلقي الحياة تلقياً حسناً، وهي نظرة إسلامية تعلي من قيم الخير والتعاون والجد والإخلاص بين البشر وأثرها في تحقيق الطموحات، ليسعد الفرد وتنهض الأمة.
|