Monday 23rd February,200411470العددالأثنين 3 ,محرم 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

مصادر للمعرفة: مصادر للمعرفة:
« 1 » الشعر النبطي
عبد الرحمن الحبيب

في غمار مراحل الانتقال من الحضارة الشفهية المسموعة إلى الحضارة التحريرية المقروءة التي تشهدها مجتمعاتنا منذ عقود، يحدث تحول تدريجي من قيم البداوة إلى قيم الاستقرار. . من ثقافة الارتجال والعشوائية والبساطة إلى الثقافة المنظمة والمنهجية والمعقدة. . وأثناء هذه التحولات من المهم أن يتم الاستفادة المعرفية من التراكم الحضاري الشفهي أو شبه التحريري قبل أن يندثر، مثل: الشعر، الحكاية، الحكم والأمثال، الرسائل وكثير من الخبرات التقنية والبيئية كالطب الشعبي والفلاحة وهندسة البناء. ورغم أن بعض هذه الحالات تم تدوينها كالشعر، فإنها لا تزال محصورة لأغراض محدودة، فيما بعضها الآخر يندثر تدريجياً، ونفقد خبرات وتجارب عظيمة النفع مر بها أجدادنا. . وموضوعنا هنا سيكون عن الشعر الشعبي أو النبطي.
منذ ظهور الشعر النبطي وانتشاره غدا ديواناً لأهل نجد من حاضرة وبادية، ينقل معارفها وأمجادها وخيباتها وحروبها في الحقب الفائتة، ناهيك عن تجذره في وجدان الجماعات وتأثيره العميق في الرأي العام حتى زمن قريب، بل لا يزال له تأثير إلى يومنا هذا. بالمقابل، نالت القصيدة النبطية إهمالا محملا بالازدراء من كَتَبَة التاريخ وباحثي ماضي مجتمعاتنا، سواء من مؤرخين محليين كابن غنام وابن بشر، أو من آخرين عرباً ومستشرقين.
ولست متناولاً هذا الشعر كفن ورصد جمالياته وتقنيته، ولا التطرق إلى تواضع أو رقي لغته الشعرية، فهذا قد تكفل به خلق كثير من قادح ومادح. إنما المراد هو تبيان مقدار ما لهذا الشعر من ثراء كمادة توثيقية تأريخية واجتماعية، نظرا لترابطه وتزامنه مع أحداث جسام وأوضاع خطرة ومواكبته لها، وتناغمه مع أفكار وقناعات مطروحة آنئذ. ولست زاعماً أن هذا الشعر يمكن الاعتداد به كمصدر مستقل للتوثيق، فما هو إلا مصدر ذو مصداقية نسبية يتمم المصادر التاريخية المتوفرة.
وأهمية هذا المصدر يمكن تلمسها من خلال ثلاث نواح؛ أولها: سد ثغرات وحلقات مفقودة في السجلات التاريخية المتاحة؛ والثاني هو الموازنة بين الروايات، من ترجيح أو رفض المعلومات غير الموثَّقة جيدا، أو القضايا الشائكة أو غير الواضحة أو المختلف عليها بين الباحثين في تاريخ مجتمعاتنا؛ وآخرها استجلاء كثير من الملامح الحضارية السابقة التي يشوبها الغموض.
يمكننا أن نستنبط أهم مصادر الرزق ونمط العيش في القرون الأربعة الماضية بمنطقة نجد من خلال الشعر النبطي. سينبئنا شعر أجدادنا بزراعتهم ومراعيهم وتجارتهم وصحتهم وأدويتهم ومبانيهم وأسواقهم. . الخ. فمثلاً ، يقول حميدان الشويعر منذ حوالي ثلاثمائة عام:
إلى جاك الولد بيديه طين وله غرس يدفن في جفاره ترى هذاك ما ياخذ زمان وإلا ما هو جامع عنده تجاره
وقد تشتهر بعض الجهات بمنتوجات محددة. يقول نفس شاعرنا عن تجارة بلدته:
أنا من قوم تجرتهم أرطى الضاحي ودوى الغيرة
وقد دأب المؤرخون على الاستفادة من أبيات شعرية لربطها بأحداث معينة، ولكن كان من الضروري أن لا تنحرف هذه الأبيات عن العمود الشعري الفراهيدي وعن النحو العربي السيبويهي.
وأمثلة ذلك كثيرة ، منها ما نجده في تاريخ بن بشر حين تطرق إلى قحط سنة 1234ه بالإشارة لقول أحد أدباء سدير:
غدا الناس أثلاثا ثلث شريدة
يلاوي صليب البين عار وجائع وثلث إلى بطن الأرض دفن ميت
وثلث إلى الأرياف جال وناجع
فالفصيح موثوق به والعامي غير ذلك!!. وما تكون (غير ذلك)؟ ربما الشك في القائل ومستواه التعليمي المتواضع؟ هذا مردود عليه نظراً لوجود شعراء ذوي مستوى معرفي مناسب إبان تلك الحقب، إضافة إلى أن بعض الأحداث لا تستلزم أي خبرات علمية بل كل ما تتطلبه مجرد حضور رجل أو تزامنه مع الحدث أو الحالة يشهد عليها. ربما رفض الشعر العامي ينبع من رفض آخر أكثر عمومية، وهو رفض مطلق لكل ما يصدر من اللغة العامية حتى وإن كان به فوائد جمَّة، حرصاً على لغة القرآن الكريم.
إنما غرضنا هنا هو التأكيد على أهمية الاستفادة من تراث تلك اللغة العامية من الناحية التوثيقية وليس اللغوية أو الأدبية، فالخبر لا يستمد مصداقيته من اللغة بل من ناقل الخبر وتفاصيل الخبر وترابطه مع الأحداث، ولا يزال كثير من الباحثين يستهجنون التعاطي مع اللغة (يسميها البعض لهجة) العامية لنفس الأسباب القديمة!.
إن استفادة المؤرخ من الشعر الفصيح دون الشعر العامي يعد خللا موضوعياً في منهجية طرق البحث، فمن ذا الذي أصبغ على الفصيح مصداقية إخبارية وسلبها من الشعر العامي، بينما الفرق بينهما هو فرق في النمط الفني واللغوي؟ إذا كان المبرر هو صحة القصيدة وليس مصداقيتها ، فهذه مردود عليها من عدة نواحٍ:
الأولى: أن هناك كثيرا من شعر العامة مسجلا ومحفوظا في مجلدات موثوقة.
الثانية: أن تطابق التواتر للمشهور من النصوص الشعرية يعطي النص صحة كبيرة.
الثالثة: أن للمؤرخ دورا تحكيمياً في انتقاء النصوص الشعرية حتى وإن كان قائلها امرؤ القيس أو شاعر مغمور لم يسمع به أحد.
فهل يكون الجهل بالشعر النبطي هو السبب الرئيس لعدم استغلاله كمصدر من مصادر التوثيق والتأريخ؟.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved