قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} الحجرات، الآية (6).
ويُرْوَى عن سفيان الثوري -رحمه الله- قوله: (لما استعمل الرواة الكذب استعملنا لهم التاريخ).
ليست هذه المرة الأولى التي نكشف فيها عن وثائق مزوَّرة يقوم بإعدادها بعض ضعاف النفوس، ويتلقفها العامة، وتنطلي على غير أهل الاختصاص؛ فينخدع بها خلق كثير، وربما تُستغل في أغراض إثبات الأنساب أو نفيها لدى الجهات الرسمية).
ومن أحدث أمثلة تزوير الوثائق المحلية الوثيقة التي سأتحدث عنها، وهي وثيقة زعم ناسخها أنها مؤرخة سنة 840هـ، ومجدَّدة سنة 860هـ، وسنة 1001 للهجرة، وأنها تخص شيخ البلخية المجاورين لسيد البرية، أي في المدينة المنورة. وفيما يلي نص الوثيقة:
(الحمد لله، عندما كان من أمر العرب يدخل كل مَن إليهم هارب(؟) بينما هم جلوس دخل عليهم رجل معه ثلاثة فتية عليهم آثار السفر وأفشى السلام، وردوا التحية، وقال: أنا ضيف، فاستضيفوه.. فأحسنوا ضيافته، ولا يسأل الضيف إلاَّ بعد ثلاثة أيام.. فقال: أين هو شيخ القبيلة والمعرّف للعشيرة؟.. وأجابه الشيخ، فقال الرجل: أريد جواركم والانتساب إليكم.. ثم قال الشيخ: فممَّن الرجل من قبائل العرب..(؟) وانتسابا؟. فقال: أنا سعد بن حسين بن عبدالله بن محمد بن أحمد بن إبراهيم بن علي بن عمر بن حسين بن خلف بن الجبر؟ الفلاحي..(؟) الجابري العمري.. فقال: سعد جده جابر بن عبدالله الأنصاري العمري ابن الشريد العامري.. ثم قاموا أبنا الرجل الواحد بعد الواحد للانتساب، فقال عبدالملك المُكَنَّى بالملايكه، ثم قام عريف(؟) المكنى بالإمشيشة(؟)، ثم قام لؤي المكنى باللولو، فانتسبوا، فاستحسنوا (؟) الجالسون نسبهم. ثم قام الشيخ فانتسب فقال: أنا حسين بن سلمان بن صالح بن علي بن مصطفى بن حسين بن موسى بن صالح بن حسن بن الأسود وننتمي (؟) إلى قبائل كندا (؟) إلى قبائل كندا (؟)، وجدنا المقداد بن الأسود الكندي، ثم دخل في البلخية محمد بن أحمد بن مرشود(؟) بن عبدالله بن ضيف بن علي العوفية (؟) وننتمي إلى قبائل عوف وجدنا عبد الرحمن بن عوف، فاستحسنوا الجالسون نسبهم، ثم دخل في البلخية محمد بن أحمد بن مرشود بن علي بن حسين بن سلمان (؟) بن محمد بن موسى بن حسين بن مصطفى بن عباس بن علي بن أحمد الأعزمي وانتمَى إلى (؟) حزام بن مزاحم المكنَّى بالشرقي. ثم قال الشيخ حسين للحضور إلى (؟) سعد بن حسين قولوا: دخلت في البلخية الغارسين للودية المجاورين لسيد البرية محمد بن عبدالله الصادق الأمين والموالين لعلي المخصوص بالحيدرية زوج فاطمة الزكية)..
هذه الوثيقة وثيقة معاهدة في دخول قبيلة الأصابعة، مال الدخل إلينا محفوظ، والعرض مضمون، ودمه دمّنا، وعرضه (؟) عرضنا، حرام علينا استباحة ماله (و) أعراضه؟ كما تحرم الكعبة على الكفار..
حُرِّرت هذه الوثيقة في عام الأربعين بعد الثمانمئة من دار الشيخ حسين البلخية، وإن الوثيقة الأولى كانت من جلد غزال، ثم جُدِّدت هذه الوثيقة بعد تمزق (؟) الوثيقة الأولى المحرر (؟) في يوم السبت المبارك خلون؟ من مسير عشر من شهر محرم الحرام، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ملحوظة: نسب سعد بن حسين أنصاري فقال: جده جابر بن عبدالله الأنصاري العمري بن الشريد المعامري المنشا، ثم نسب محمد من عوف، ثم نسب الشيخ حسين من كندا، ثَمَّ الدخول على يد جماعة من المسلمين وهم الشيخ حسين بن عباس العلوي، ودخل أيضاً في قبيلة الأصابعة عبدالله بن حسين بن جعفر بن علي بن محسن بن عباس بن موسى بن علوي الأعزومي، ودخل أيضاً في قبيلة الأصابعة الحاج عمر بن حمزة بن عمار المغربي، ودخل أيضاً في قبيلة الأصابعة عبدالله بن محمد بن علي بن الجبر الأوسي الأنصاري، ثم دخل أيضاً في قبيلة الأصابعة خلف بن إبراهيم بن علي الغبساني (؟) الجهني، ودخل أيضاً في قبيلة الأصابعة عباس بن أحمد بن عمر بن حميد بن أحمد العوفي (؟) المغذوي، ودخل أيضاً في قبيلة الأصابعة سالم بن إبراهيم بن حسن بن عطوان (؟) بن فراج الحازمي(؟)، ودخل في قبيلة الأصابعة يوسف بن عجب بن سالم الجهني المرواني، ودخل أيضاً في قبيلة الأصابعة عمر بن سري الصويحب (؟)، ودخل في قبيلة الأصابعة إبراهيم بن يوسف بن موسى بن حماد بن...(؟) بن علي العمري، ودخل أيضاً في قبيلة الأصابعة محمد بن علي بن مَرجي بن فراج بن خلف بن عريف الحازمي (؟)، ودخل أيضاً في قبيلة الأصابعة عمر بن علي بن خصوي (؟) العلوي، ودخل أيضاً في قبيلة الأصابعة حميد بن عبدالله بن عون بن حسن بن ميسان (؟) بن عبدالله بن معَلاَّ الحريبي، ودخل في قبيلة الأصابعة الجفري (؟) بن حسين بن سالم بن محمد بن يوسف بن إبراهيم بن عباس؟ الحربي المحمدي الحوفي، ودخل في قبيلة الأصابعة محمد بن سالم بن موسى بن سلمان (؟) ودخل في قبيلة الأصابعة عصوى (؟) بن أحمد بن عبدالله بن حمود..(؟) بن يوسف، ودخل أيضاً في قبيلة الأصابعة بشير بن علي...؟ ودخل أيضاً في قبيلة الأصابعة علي بن أمين؟ بن حسين بن زهير، ودخل أيضاً في قبيلة الأصابعة فهد بن عباس بن الحرة (؟) بن حسن المزني الكتمي العلوي..
ملحوظة: لقد تم الاتفاق وتوثيق الوثيقة... إلخ. إلى قوله: جُدِّدت هذه الوثيقة في عام الستون (؟) بعد الثمانمئة من شهر رجب على يد جماعة من المسلمين وهم: الشيخ أحمد بن علي...(؟) والشيخ محمد بن نجَى (؟) الفريدي، والشيخ علي بن عجمان العلوي، وختم الشيخ حسين بن علي القرفي..
ونعم الأمر كما ذكر، ختم الشيخ إبراهيم بن يوسف الأصبعي.
ونعم الأمر كما ذكر، ختم الشيخ أحمد بن محمد السيد.
ونعم الأمر كما ذكر، ختم الشيخ فواز بن عبدالله الإصبعي.
ونعم الأمر كما ذكر، ختم الشيخ يوسف بن عيد العلوي.
ونعم الأمر كما ذكر، ختم الشيخ فراج بن علي الزعيبي (؟).
ونعم الأمر كما ذكر، ختم الشيخ... (؟) عودا (؟) القرافي.
ونعم الأمر كما ذكر، ختم الشيخ عبدالملك بن رضوان الأقبشي.
ونعم الأمر كما ذكر، ختم الشيخ حسين بن علي الصفوي.
ونعم الأمر كما ذكر، ختم الشيخ عطية بن محمد.
ونعم الأمر كما ذكر، ختم الشيخ حسن.
ونعم الأمر كما ذكر، ختم الشيخ سعد بن حمد العوفي (؟).
ونعم الأمر كما ذكر، ختم الشيخ عباس (؟) بن سلمان (؟).
ونعم الأمر كما ذكر، ختم الشيخ فهد بن محمد العلوي.
ونعم الأمر كما ذكر، ختم الشيخ يوسف بن مرزوق.
ملحوظة: لقد ضم (؟) في قبيلة الأصابعة الشيخ سالم بن عبدالله بن محمد المكنَّى بصابرين في عام الأربعين بعد الثمانمئة ثم ضم (؟) أبقانا (؟) في قبيلة الأصابعة الشيخ محمد بن حسن بن سلمان بن علي بن أحمد بن سلمان المكنى بالحريق؟ وأخرجت صورة في يد سالم، ثم خرجت صورة في يد عبدالله بن عريف بن سعد بن حسين الأنصاري، وهي الصورة المتضمنة الحشاحشة والنبايجة والشراقية والضيوف واللولو وملايكه، ثم أُخرِجت ثلاثة (؟) صورة (؟) في تمام الألف وواحد من الهجرة في جمادى الأولى بعد تمزق الوثيقة الأولى، وكانت في جلد غزال، ثم وصى سعد بن حسين الأنصاري أبناءه إذا كثرت (؟) تفرقوا لكي لا تصيبك العين الحاسدة.
ملحوظة: ولا تسلم هذه الوثيقة في يد امرأة أو في يد جاهل يعبث بها أو يفشي ما كان داخلها).
ومن أهم علامات تزوير هذه الوثيقة:
1- أنها مجهولة المصدر.
2- أن المتاح منها صورة ليس أصلاً.
3- أن خط الوثيقة خط حديث، ولا يتناسب مع طبيعة الخطوط في الفترة المشار إليها.
4- أنه لم يُسَمِّ كاتبها سنة 840هـ! ولا مُجَدِّدها سنة 860هـ ولا مُجَدِّدها سنة 1001هـ.
5- أن الأختام الموجودة عليها أختام غامضة، ولا يمكن قراءة أي منها، كما أن وضع الأختام على الصور يمكن وضعه بالتصوير من وثائق أخرى.
6- أنها تتضمن معلومات تاريخية غير صحيحة، ومن ذلك ما يلي:
1- أن العرب لم يعتادوا أن يدخل إليهم كل هارب، كما يقول، وهذا يخالف منطوق وثائق أحلاف القبائل (انظر: كتاب التنظيمات القانونية لقبائل الحجاز قبل العهد السعودي).
2- أن قبائل الحجاز لا تستخدم عبارة معرّف العشيرة، وخاصة في تلك الفترة، ولم ترد في وثائقهم التي اطَّلعنا على الكثير منها.
3- ليس من المُتَّبع لدى القبائل، كما تفيد وثائقهم الصحيحة، أن يأتي رجل غريب ويقول: أريد الانتساب إليكم! وإنما يجوز أن يدخل معهم بحلف حماية لا نسب.
4- قوله: الجابري العمري، يوحي أنه يقصد بني جابر من بني عمرو، وهي قبيلة مشهورة مقرها وادي الفرع في منطقة المدينة المنورة، لكن بني جابر الذين اطَّلعنا على وثائقهم وعرفنا أعلامهم ليس فيهم سعد بن حسين الفلاحي...إلخ، كما أنه لا علاقة لهم بالأنصار!
5- قوله: إن سعد بن حسين جده جابر بن عبدالله الأنصاري العمري ابن الشريد العامري)، قوله ملفق ويتضمن أخطاء ظاهرة في الأنساب، منها:
- أن بني جابر من بني عمرو لا ينتسبون إلى جابر بن عبدالله، بل هم من ولد عبدالله من بني محمود من بني عمرو بنص وثائقهم.
- أن هذا القول لم يقل به أحد من كبارهم، ولا من الباحثين في أنساب قبيلة.
6- لا يُعرف في قبائل الحجاز في الفترة المذكورة وما بعدها مَن ينتسب إلى حسين بن سلمان بن صالح بن علي بن مصطفى بن حسين بن موسى بن صالح بن حسن بن الأسود الكندي..
7- لا يُعرف في المصادر التاريخية قبيلة باسم البلخية في منطقة المدينة المنورة، ولا لشيخها حسن بن سلمان الكندي البلخية.
8- قوله: (إن الوثيقة الأولى كانت من جلد غزال) دليل على أن هذا الكلام مصنوع حديث، حيث يعتقد العامة أن الوثائق قديماً كانت تكتب على جلد غزال! ويلحظ أنه كرر هذه العبارة!
9- قوله: (ثم جُدِّدت هذه الوثيقة بعد تمزق الوثيقة الأولى)، يوحي بأنها مزوَّرة؛ حيث إن كلمة تمزق لم تكن شائعة في تعبير أهل الحجاز في ذلك الوقت، بل يستخدمون كلمة تالفة، أو لحقها التلف، أو متقطعة..
10- أن جد عوف ليس عبدالرحمن بن عوف؛ لأن عبدالرحمن بن عوف زهري قرشي توفي سنة 31هـ، ولا يُعرف له عقب. والقول بانتساب عوف إليه قول لا يُوجد إلاَّ عند العامة، ولا يُوجد عند علماء الأنساب ودارسيها، ولا يُوجد في وثائق الحجاز التي اطَّلعت عليها.
11- أن رقم (6) في تاريخ التجديد المزعوم للوثيقة سنة 860 مكتوب بطريقة حديثة، حيث كان رقم 6 يكتب هكذا ( ).
12- أنه ذكر أفخاذاً متأخرة قد اشتُهرت قبل القرن العاشر الهجري، مثل: المغذوي, والحويفي، ونحوهما.
13- أن الشيوخ المصدِّقين على الوثيقة وعددهم 14 شيخاً لا يُعرف منهم أحد في مصادر تاريخ قبائل الحجاز.
14- أن قوله: (ولا يسأل الضيف إلاَّ بعد ثلاثة أيام) ليس إلاَّ معلومة عامية حديثة، لم يرد لها أية إشارات في الوثائق والمصادر القديمة.
15- أن قوله: (وأخرجت صورة في يد سالم... إلخ) يدل على حداثة هذه العبارة، لأن التعبير عن تكرار النسخ لم يكن يعبَّر عنه بالصورة إلا بعد ظهور التصوير، وكان يعبَّر عنه بالنسخة، والمثيلة، ونحو ذلك.
16- أن كلمة ملحوظة: التي كررها 4 مرات، تدل على حداثة الأسلوب، لأن هذا التعبير لم يكن مستخدماً عند عوام القبائل، وإنما كان المستخدم في الوثائق القديمة عبارات أخرى مثل: ملحق خير، أو: زيادة، أو نحو ذلك.
17- أنه ذكر بعض الأسماء التي تتطابق مع أسماء أعلام متأخرين، ومن ذلك:
- الشيخ حسين بن علي القرف (القرفي)؛ فهذا متأخر.
- الشيخ فهد بن محمد العلوي، فيوجد الشيخ فهد بن محمد بن محمود العلوي الأحمدي؟؟.
ونكتفي بهذه الأدلة على بُطلان الوثيقة وعدم صحتها. أما الهدف من الترويج لمثل هذه الوثيقة فلا بد أنه يدور حول محاولة مزوِّرها في إثبات نسب أحد الأعلام الواردين فيها بطريقة معينة لخدمة مصلحة معينة، ولا نريد أن نخصص الاسم المقصود حتى لا نسيئ لتلك الأسرة المعنية التي ليس لها يد في التزوير..
وختاماً، نرجو ممَّن يجد مثل هذه الوثيقة المشكوك في صحتها أن يعرضها على دارسي الوثائق وذوي الخبرة حتى لا يخدع بمضامينها المكذوبة.
والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
|