لم يكد ينهي مرحلته الابتدائية إلا وكان لقب الدكتور لاصقاً به، كان ذكياً جداً ومجداً، متفوقاً في كل دروسه، وكل المعلمين يحبونه. كل من عرفه قال لأهله ابنكم هذا سيصبح طبيباً.. نعم فذكاء كبير كهذا لا يمكن ان يكون إلا لطبيب. حتى أصدقاؤه في المدرسة تنبهوا لذلك وكانوا في كثير من لحظات تميزه وتفوقه يقولون له: (والله أنت شكلك دكتور).
كان مسروراً بنجاحه وبحب الآخرين له ولم يكن يبخل بأي جهد للحفاظ على تفوقه وعلى لقب الدكتور هذا.
كان اسم الدكتور يزداد لسوقا به وكان هو يلتهم صفوف الدراسة بسرعة وتفوق هائلين سعياً وراء هدف كان أهله قد أصبحوا أكثر تعلقاً به منه.
(لكنني أحب كرة القدم كثيراً) .. غالباً ما كان يحدث نفسه هكذا. فبالإضافة للدراسة كان مولعاً بشيء اسمه كرة قدم. لم يذكر انه فوت مباراة نقلها التلفاز أو حتى مباراة لفريق مدينته المحلي في الملعب، اشترى كل المجلات المختصة بكرة القدم حتى الأجنبية منها.
اصبح مهووساً بأي معلومة جديدة عن أي لاعب أو فريق أو منتخب، لكن هذا كله لم يؤثر على دراسته ولم يزحزح مكانته في عيون الناس قيد أنملة.
علاماته الخارقة في نهاية تعليمه الثانوي قادته مباشرة إلى كلية الطب.. طبعاً علامات كهذه لا يمكن أن تكون إلا لطبيب.. هكذا قال كل من حوله وهو طبعاً اقتنع بذلك وشعر بالفخر.في الجامعة تفتحت المجالات أمامه... صار مصروفه أكبر.. لأنه دكتور العائلة... وصار وقته أوسع لأن الدوام ليس إلزامياً.. وصارت كل طلباته مجابة.. كيف لا؟!
لم يترك كتاباً عن كرة القدم إلا واشتراه وتابع هوايته في حضور كافة المباريات، في سنته الثالثة أصبح موسوعة حقيقية في كرة القدم، كما أصبح طبيب نادي مدينته يرافقه في حله وترحاله، لكنه بقي متفوقاً دراسياً. بدأ أصدقاؤه يتسابقون لحضور المباريات معه لأنه كان يملك قدرة هائلة على تحليل خطط اللعب وفهم أفكار المدربين، وكان أكثر ما يمنعهم هو ذلك النقد اللاذع الذي كان يوجهه للمعلقين لجهلهم ومعرفتهم السطحية بما يتابعون.
شيئاً فشيئاً أصبح يشعر أنه ليس في مكانه الصحيح، فهو يحب الطب .. لكنه يعشق كرة القدم ... (أنا أريد أن أصبح معلقاً رياضياً ومذيعاً مشهوراً.. من هؤلاء الذين يظهرون في التلفزيون.. يا الهي ما تفعل الواسطة في أيامنا هذه) صعق أهله برغبته هذه لكنهم اعتقدوا أنها نزوة ولم يتدخلوا.
كان كل زملائه يقولون له: حرام ان تجلس معنا هنا فيما يعلق هذا الجاهل على المباراة .. وكان هو يزداد قناعة أن مكانه خلف تلك الشاشة. أحس بقوة خارقة تجذبه نحو مبنى التلفزيون، عندما سمع بمسابقة لقبول المعلقين الرياضيين لا تتطلب شهادة كلية الصحافة. سجل اسمه ثم عاد وأجرى امتحانات سنته السادسة والأخيرة، وعندما كان يجري المقابلة مع اثنين من المذيعين الذين طالما نعتهما بالجهل كان أهله يحتفلون بتخرجه وبأن ابنهم أصبح طبيباً (بحق وحقيق).
أدهش كل من في قسم الرياضة بغزارة معلوماته وثقته الهائلة بنفسه وأدهشهم أكثر بكونه طبيباً بمعدل عالٍ يخوله اختيار أي اختصاص يرغب به. قبل فوراً واستلم برنامج ساعات تدريبه التلفزيونية بعد أيام فقط من بدء اختصاصه الذي اختاره. أراده اختصاصاً بدوام قصير بدون مناوبات وبدون ساعات عمل إضافية.. بدون أي ضغوط.. أراد أن يصبح أخصائياً حتى يرضي أهله ومعلقاً مشهوراً وباحثاً في كرة القدم ليرضي نفسه.. كان هذا قراره النهائي.
رويداً رويداً بدأ يشعر بالغربة أحس أن كل من حوله كان يعمل لمجرد العمل.. لم يكن هناك أي احترافية أو متعة أو أي شيء مما كان يخطط له أو يحلم به كان كل شيء روتينياً ورتيباً خالياً من أي تجديد.
في الحقيقة فجع تماماً بواقع العمل التلفزيوني من حوله لكنه كان يستمتع حقاً باختصاصه الطبي ويندمج رويداً رويداً بين زملائه.
في امتحان السنة الأولى أحس بالتقصير لأول مرة في حياته لأنه لم يكن بين الأوائل وكان تقييمه عادياً جداً، وفي نفس اليوم الذي قال له أستاذه أن عليه العمل بجد أكبر وإلا فإنه لن يكون ناجحاً ولن يصبح طبيباً حقيقياً أبدا كان المشرف على تدريبه في التلفزيون يخبره أن عليه تقديم نشرة الأخبار الرياضية اعتباراً من الشهر القادم.
لم يكن هذا ما يصبو إليه.. تبخرت أحلامه وأحس بأنه خدع نفسه وخدع أحباءه.. (نعم أنا أحب كرة القدم كثيراً لكنني خلقت لكي أكون طبيباً) .. أحس أن القدر كان يسيره في خطين مستقيمين متوازيين لا يمكن أن يلتقيا أبداً.
هو الآن يبدأ عمله في التاسعة صباحاً، يستمتع تماماً، وبدأ يحس بالاحترافية التي كان يحلم بها ولا يزال يكتشف أشياء جديدة ويتعلم يومياً معنى وروعة أن يكون طبيباً وجمال اختصاصه ومتعة ممارسته.
يعود كل مساء إلى منزله سعيداً بأشياء اكتسبها، يتذكر مرضى كثراً ساهم في إسعادهم، يبتسم ويفتح التلفاز، ينادي زوجته ويبدأ بتحليل المباراة وبانتقاد أداء اللاعبين والمدربين والمذيعين ويفاجأ بعد نصف ساعة من كلامه انها في المطبخ تعد طعام العشاء.
د . مروان أسعد
عيادات ديرما - الرياض |