تتفق الكثير من العلوم الحديثة على أن لكل شيء مادة تؤلفه وتركبه، وصورة تعطيه شكله المميز، ففي الكيمياء مثلاً: نجد أن الماء يتركب من ذرة أكسجين مرتبطة تساهميا وهيدروجينيا مع ذرتي هيدروجين لتعطي الماء خصائصه المميزة له كيميائياً كتفاعله مع المواد الأخرى، وفيزيائيا كدرجتي الغليان والتجمد مثلا.. ولا يضيره بعد ذلك أن يكون سائلاً أو قالباً من ثلج وهو ما نعنيه بالصورة.
وفي أحيان تظل الصورة كما هي مع اختلاف كلي للمادة وحينذ تختلف خصائص هذا الشيء الأساسية والمميزة له. فالأوكسجين مثلا يحمل الرمز « o »وتكتب عادة بالإشارة إلى عدده الذري وكتلته الذرية.
ولكن في حقيقة الأمر نجد أن نواته قد تأخذ إحدى ثلاثة أصناف باعتبار نقصان.. أو زيادة نيترون واحد لتلك النواة. وهذا ما يسمى فيزيائياً بالنظائر المشعة وفيها تكون إحدى تلك النوى مستقرة تماما في الوقت الذي نجد فيه الأخريين تشكلان مصدراً من مصادر الإشعاع الذري رغم تشابه الصورة إلى حد كبير.
وسواء كانت الصورة هي ما اختلف أو كانت المادة هي ما فعل ذلك فالنتيجة واحدة وهي التركيز على المادة لا على الصورة. فالمادة هي في النهاية من يعطي المواصفات والامتيازات الأساسية لشيء ما والقيمة الحقيقة له.
وليس الأمر مقتصراً على العلوم النظرية البحتة بل إنه يتعدى ذلك إلى أمور اعتيادية وشؤون معيشة في كثير من الأحيان ولا نبالغ إن قلنا: إنها تتجلى واضحة هذه النظرية (الاعتماد على المادة لا على الصورة) في بعض العبادات.
فصورة الصلاة مثلاً تتركز في كيفية القيام والركوع وسائر الواجبات بل والسنن أيضا في حين نجد أن مادتها هي الخشوع بين يدي الرب عز وجل وفيها نجني الفائدة العظمى والغاية القصوى.
قال تعالى:{ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}.. الآية. بل إن ذلك ورد نصاً في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم..) أو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم.
وللصيام صورة تميزه أيضا وهي الامتناع عن الأكل والشرب والجماع, لكن مادته الأساسية هي التقوى والقرب من الله والبعد الكلي عن الذنوب التي تقترفها الألسن والجوارح في غير مأكل ومشرب.
قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } الآية.
ولذلك ورد التحذير من أن يكون ليس للمسلم من صيامه حظ سوى الجوع والعطش.
إذن فهي قاعدة طبيعية بل نظرية.. يتوجب علينا الأخذ بها قبل أن نصدر أحكاماً أو نقول أقوالاً باعتبار الصور فقط دون المادة.
فللإنسان مثلا صورة وشكل يميزه عن غيره ويعرف بها لكن مادته الأساسية تخفى إلا على من احتاط لنفسه قبل أن يوافق هذا أو يخالف ذاك.
فالعبرة إذن بالعقل والقلب وهما مجتمعين مادة الإنسان، وليس بالشكل والرسم والصورة.
قال تعالى: { فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.. الآية.
فنفى العمى الصوري والشكلي وأثبت المادي والجوهري.
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» أو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم.
فإن لنا أن نحكم على الفكر والمفكر لفكرته وقربه للحق ونأخذ بها دون النظر إلى شكله وصورته، ونحن في زمن باتت الصور توضع جنباً إلى جنب إلى حيث تنشر الأفكار كما يحدث في كثير من الأحيان في الكتاب أو المقالة.
يقول علي رضي الله عنه في فلسفة رائعة جداً أختم بها هذه المقالة: «إن الحق والباطل لا يعرفان بالرجال، بل بهما يعرف الرجال».
|