عرض حلقات الحوار الصريح حول الخلاف والاختلاف في إرث المسلم الفكري على قناة المستقلة، أصاب الكثير من المشاهدين بعلامات العجب مما يجري من تنافر وتضاد بين المتحاورين أو بين رموز الطوائف ومفكريهم، فالمتابع للبرنامج سيلحظ لغة الحوار العنيفة وعبارات الإقصاء و(التدمير) للآخر, ولابد بعد هذا (الوضوح) أن تثار لديه الكثير من التساؤلات عن جذورها وأسبابها, وعن الواقع الذي سمح لها بالازدهار في ذلك المجتمع, وعن كيف بدأت, ولماذا انتهت إلى هذه الكم من الخلافات والانشقاقات والأزمات الفكرية التي لا تتوقف عن التكاثر في الحقل المعرفي العربي, ولماذا أبدع هذا العقل في بناء تلك الجدران العالية حول وعي العامة, أو ما اعتدنا سماعه من بعض الرموز الدينية منذ الصغر بأن هذه الأفكار لها خصوصيتها، وأن( العامة) لا يجب أن يطلعوا على تفاصيلها..! لعل ما نشاهده على شاشة المستقلة من صراعات بغيضة سيكون له دور في إسقاط جزء كبير من مشاعر الحنين والاشتياق إلى الماضي, والتي رسمتها قراءات انتقائية في مخيلتنا عن تلك الصور بوصفها قيمة مثالية نعود إليها كلما هب رياح اليأس على أفئدتنا المنهزمة بسبب تخلفنا عن الركب الحضاري..,. وبسبب تلك العلاقة الرومانسية الشفافة تراكمت في الوعي العام علاقات مقدسة من نمط احترام الأسبق والأكبر في إطار منطق تقدير الخلف للسلف.. لكن ثورة الفضاء جاءت إلى بيت (العامي) برَغم من تحذير بعض العلماء منها، لتخرج عصارة تلك الصراعات أمام الناس أجمعين,. . ربما ليدركوا بعد غياب طويل عن مسرح العنف الفكري أن هذا الإرث,على وجه التحديد، من الحضارة الفكرية في تاريخ المسلمين كان أحد أهم أسباب سقوطها لاحقاً,... فقد كانوا منشغلين لحد كبير بالنزاع في أمور غيبية لا يملكون الدليل القطعي و الثابت في أغلبها, حيث تتراوح خلافاتها,بين فهم ظاهر للنصوص, ضد فهم متأول آخر... لم تتوقف هذه النوعية من الصراعات عند علماء العقيدة والفقه, إنما تجاوزتهما ليدخل فيها الساسة والفلاسفة والأطباء مما أدى إلى تحطيم منظومة المعرفة في المجتمع العربي المسلم بعد القرن الثالث الهجري, وإقصاء كثير من العلماء والفلاسفة والمثقفين, لندخل في دويلات تعتمد في شرعيتها على اجتهادات نظرية, فكان هناك دولة لأهل السنة والجماعة, ودولة أخرى للشيعة, وثالثة للأشاعرة, وأخرى للفرق الباطنية.. ولم يعد هناك بعد استشراء ذلك التمزق اتحاد للمصالح العليا للمسلمين أو العرب أو اهتمام للمبادئ الإستراتيجية التي تسعى لتأسيس الدولة,ثم الحفاظ على وحدتها في ذلك العصر، ليظل الاجتهاد العقدي النظري في قرون عديدة سبباً رئيسيا لبدء كثير من الحروب التي نشبت بين أجزاء الوطن الكبير المتشتت.., و(قضية) يمتطيها أصحاب المصالح الخاصة لتحقيق طموحاتهم السياسية.. فقد نالت تلك الحروب والشقاقات من مصالح الإنسان في ذلك العصر, وأوهم العالِم النظري الإنسان العامي أن التشبث بهذه الاختلافات هو الحل لمشكلاته الاجتماعية و السياسية, فتحولت مصالح الناس إلى الهامش, وغلبت خلافات الغيب على مشكلات الواقع, لتسقط العلوم العملية, وتختفي مظاهر العمران والاقتصاد, ويُحاصر العقل العملي الذي يبحث بجدية عن حلول للواقع بمصائد الإيمان والتبديع والتكفير إلى أن أصبح الحرف العربي في زمن لاحق مطارداً في سجون الغزاة, ليعود إلى حيث الصحراء والجمل ومرابع القبيلة واقتصاد الغزو ومواسم الرعي والهجرة.. ولكن مع تراكم إرث الماضي وانشقاقاته في العقل (العامي), أصبحت قضية الرجوع للماضي، ثم العيش بين أحداثه وصراعاته سلاحاً في عقول الرموز والقادة, يدفعها أحياناً ضغط الحاضر وتخلفه وصراعاته، قد يزيد من حدة انقساماته المصالح الذاتية في أحيان أخرى، فالبحث عنها, وعن أسباب السيطرة في عصور الانحطاط كان أحد أسباب غزو الماضي ثم استلابه إلى الحاضر بكامل تفاصيله وخلافاته, وهو ما حدث في عصور حروب استقلال الأوطان العربية من قرون التجاهل العثمانية لبلاد العرب.. لكن في بداية القرن العشرين أو بعد الاستقلال ظهرت علامات أو إشارات لغرض التجديد والتنوير على أيدي أعلام ومفكرين, تنقل الاختلاف والمنافسة إلى أحداث الواقع ومصالحه, لكن بدء عصر الاستعمار الغربي للعالم العربي أعاد مرة أخرى ثقافة الصراع والمقاومة للواجهة، فظهر التعصب العقدي, وازدادت أفكار التطرف كلما اشتدت حدة المواجهة مع الغرب سواء من خلال حركات التحرر الوطنية أو عبر مواجهة دولة إسرائيل في فلسطين المحتلة. . ولا يمكن حسب وجهة نظري على الإطلاق فهم خلفيات الحادي عشر من سبتمبر 2001، و موجات العنف والإرهاب بدون قراءة متزنة لما أكده هنتنغتون Huntington فيما دعاه ب (صدام الحضارات)، فقد برر ادعاءه بأن (عدو الغد) للحضارة الغربية سيكون (الإسلام) إلى جانب الكنفوشية, ثم راح يقرأ تاريخ الإسلام على أنه تاريخ الصدام مع (الغرب)، وذلك إلى درجة أنه لم يتردد في وصف الحدود التاريخية بين الإسلام ودول أوروبا بأنها حدود دموية, أو مثلاً لما صرَح به كيسنجر من أن معاهدة سلام وستفاليا لا تنطبق على الشرق الأوسط. كما لو أن الشرق الأوسط أو العالم العربي كوكب مختلف لا تنطبق عليه قوانين الكوكب الأرضي.. وبما أن المسلمين والعرب يعيشون في خندق المقاومة منذ قرن ضد قوى الاستعمار والغزو والاستيطان, لم يحتج الأمر إلى وقت طويل لتأليب قوى المقاومة الشعبية وثقافة الجهاد ضد الغرب الكافر في الحاضر, بينما في جانب آخر من مشهد صراع الآخر مع الغرب اختفت ردة الفعل الدفاعية في الشرق الآسيوي, ولعل ماضوية الكنفوشية تختلف في أساليب وأفكار المقاومة عن الإسلام, فلم يؤد استعداء الغرب لها إلى استدعاء ثقافة المقاومة أو الدفاع أو الجهاد، ربما لأنها لا تملك في جذورها شيئاً مثل ذلك (لا تتمنى لغيرك ما لا تتمناه لنفسك)., لكن الوضع مختلف في تاريخ العرب والمسلمين, فجذور المقاومة وأصول الجهاد تهيمن على إرث المسلمين, فهي حضارة قائمة على جذور شديدة العداء ضد الأخر المخالف في أصول العقيدة في الداخل,وضد الآخر المعتدي من الخارج, وتدعو بشكل صريح إلى محاربتهما ومقاومتهما عند أغلب الطوائف.. وقد تختلف شدة ذلك العداء حسب الموقف المتجدد من أيهما.., والذي تحكمه في الغالب أولويات إستراتيجية (العداء) الكامنة في الجذور والأصول المتوارثة.. وبما أننا دخلنا مرحلة الصراع رغماً عن أنوفنا, فهل حان الوقت لتدارك الوضع, والاستعداد إلى يقظة حقيقية تذيب المواقف العدائية للأخر في الداخل قبل أن يٌفرض علينا الرضوخ والاستسلام لقوى الخارج الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فقد تعلمنا بسبب ثورة المعلومات من التاريخ, وبعد عشرة قرون أن ثقافة الإقصاء لا تفرض الحق, ولا تزهق الباطل, لكن تؤجج بنجاح باهر مشاعر الكراهية وتزيد من مواقف العداء,وتعمل على الحفاظ على ذاكرة حية وغنية بأساليب الانتقام وطبائع الاستبداد..
|