ليست للمجتمعات البشرية في كل أنحاء المعمورة إلا ما ندر حديث أهم من حديثهم عن المال والإرهاب؛ حيث يحاول القائمون على تلك المجتمعات، ومن خلفهم المنتمون لها، بشتى الوسائل والسبل وبكل ما أُتوا من قوة مكافحة الإرهاب والقضاء عليه وعلى أنصاره وتجفيف منابعه ومنعه من التغلغل في مجتمعاتهم وإفساد عقول شبابهم وتدمير ثرواتهم وإذهاب خيراتهم. وعلى الجانب الآخر يعملون جاهدين من أجل الحصول على المال وجلب رؤوس الأموال لبلدانهم محاولين الاستفادة منها والانتفاع بها. وبما أن هناك طرفاً محبوباً مرغوباً يُدعى المال، وآخر ممنوعاً منبوذاً يطلق الجميع عليه الإرهاب، الذي لا يرى شيئاً ساراً نافعاً إلا حاول تغييره وقلب حاله رأساً على عقب، فهو هذه المرة على ديدنه لم يتبدل، وقد حاول مجادلة المال وإفهامه أنه أكثر خطراً على البشرية منه، وقال له: إن الناس يعتقدون أنك نعمة، وبوجودك تنتهي المشاكل وتحل العقد وتهون الصعاب, ولكن في حقيقة الأمر أنت السبب الرئيسي لكل فساد ودمار في هذا الكون، وبسببك تقوم الحروب وتتنازع الدول ويتخاصم الجيران ويتقاتل الإخوة. فقال المال: يجب أن تعلم قبل كل شيء مَن أنا، فأنا إحدى زينتين في هذه الحياة؛ حيث يقول الله تعإلى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، فبي يشبع الجائع، ويُكسى العاري، وتُعمَّر الديار، وتعز الأوطان. أما أنت فأقل ما يمكن أن يُقال عنك أنك مصدر الخوف والرهبة والهلع والفزع، واسمك يحمل المعنى ذاته، شعارك قتل الأبرياء والانتقام من الجميع في سبيل تحقيق مطامع أنصارك وأتباعك. فرد عليه الإرهاب قائلاً: إنك حين تصفني بأني مصدر الخوف والرهبة إنما تثني علي من حيث لا تدري، فأنا شكل من أشكال الجهاد, فبي وحدي تُلبَّى المطالب، وتنال المصاعب، مَن قُتِل في سبيلي فهو بمنزلة الصديقين والشهداء. أما عن قولك: إنك إحدى زينتي الحياة الدنيا، فليس لدي اعتراض عليه، ولكن لا تنس أنك ألد الأعداء، وقد قال ذلك عنك رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي لا ينطق عن الهوى، في الحديث الذي رواه الطبراني عن أبي مالك الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس عدوك الذي إن قتلته كان فوزاً لك وإن قتلك دخلت الجنة, ولكن الذي لعله عدوك ولدك الذي خرج من صلبك, ثم أعدى عدو لك مالك الذي ملكت يمينك). فقال المال: ولكني مرغوب محبوب من الجميع، الكل يسعى في طلبي، ويهوى امتلاكي، أما أنت فمنبوذ من الجميع، وكلٌّ يحاول أن ينعت خصمه بك وبالانتساب إليك. فقال الإرهاب: على الرغم من عدم موافقتي لك بما تصفني به من عنف وكراهية, إلا أني واضح، والناس بمختلف فئاتها وأصنافها وأجناسها تتعامل معي بإحدى طريقتين: إما معي أو ضدي, فمن كان معي فهو في الغالب يبذل الغالي والنفيس من أجلي، حتى نفسه يرخصها في سبيلي. أما أولئك الذين هم ضدِّي فهم يمقتوني ويحاربون أتباعي. ولكن بالنسبة لك، فأمرك غير واضح على الإطلاق، فأنت في الظاهر متعة وهبة وزينة، وفي الباطن قد تكون ابتلاءً وبلاءً وفساداً، وقد تدمر وتخرب في ساعات ما يفوق أفعالي منذ بدء الخليقة، فأنت حين تكشِّر عن أنيابك وتعيث في الأرض فساداً يروح ضحيتك مجتمعات بأكملها، ويصاب ضحاياك بالحسرات التي لا تتركهم حتى تسلبهم أرواحهم، وتتقلب حال بلدان من قمة الغنى إلى قاع الفقر. هذا بالنسبة لأفعالك الإجرامية غير المحمودة العواقب بالطبع، ولكن ماذا عن أتباعك وأنصارك، هل يتم ملاحقتهم والتشهير بهم وإلقاء القبض عليهم؟! بالطبع لا، فهم من ذوي ربطات العنق الباهظة الثمن الذين بعد أن يرتكبوا جريمتهم يأتون مهرولين إلى المجني عليهم مُسْدِين النصائح المدفوعة الثمن التي في ظاهرها النجاة والخلاص وفي باطنها الخراب والدمار؛ ليجهزوا على ما بقي من بصيص أمل في النجاة والعودة إلى الحياة مرة أخرى، ثم بعد ذلك يذهب أتباعك مرفوعي الرأس دون أن يُتَّهموا بشيء، أي أن إرهابك قائم على المكر والخداع، وشعارك المال يبقى للأغنياء فقط، وضحاياك الفقراء والبلدان النامية الفقيرة، فأنت تأتي بأفكارك وخططك الإنمائية لإنقاذهم من الفقر المدقع الذي يعيشون فيه؛ لتحاصرهم وتضرب أطنابك عليهم، فتمتص خيراتهم وتبقيهم في فقر دائم يزداد عاماً بعد آخر. فرد عليه المال قائلاً: إنك تحاول تغطية جرائمك وفضائحك بمحاولة رميي بأبشع الصفات، رامياً عليَّ التهم جزافاً دون أي دليل. فقال الإرهاب: مهلاً، سوف أورد لك بعض الأمثلة التي تثبت لك صحَّة ما أقول، وخذ على سبيل المثال لا الحصر: كيف هي الدول الغنية أو ما تسمَّى بدول العالم الأول تستغلك لإرهاب الدول الفقيرة، وذلك بطرق شتى؛ مثل إغراق أسواق العالم الثالث بالسلع الاستهلاكية، ورفع أسعار المواد الخام أو تلك المستعملة في إنتاج السلع بهدف رفع تكلفة الإنتاج في الدول النامية، بالإضافة لمحاولة منع دخول منتجات الدول الفقيرة إلى أسواق الدول الغنية، وأسوأها على الإطلاق محاولة زرع الفتن والقلاقل لمنع حدوث الاستقرار في البلدان الفقيرة؛ مما يطيل أمد سيطرة الدول الغنية على الدول الفقيرة؟! ولا يتوقف إرهاب المال عند حد معين، ولا نوع بعينه، بل يتعدد ويتشكل يتلون بمختلف الأشكال والألوان، فمن غسيل الأموال في بنوك الدول الفقيرة، ومن ثَمَّ معاقبتها على ذلك، إلى تجميد أصول الأموال والتحكم بالأسعار. ثم هل يجد العالم الغني مَن يحاسبه على إرهابه؟! بالطبع لا، فهم أوجدوا المنظمات والهيئات الدولية التي تسن القوانين وتخضع الدول الفقيرة لها حسب رغبة الدول الغنية، والويل كلَّ الويل لمَن يحاول التجرؤ والتطاول على أصحاب الأموال، أو رفع رأسه، أو الهمس بالمعارضة والتذمر، فهذا الفعل سيؤدي لا محالة لمعاقبته بالمقاطعة الاقتصادية، ونعته بأقبح الأوصاف، ورميه بأسوأ التهم. ثم إن تلك المنظمات تعمل لما يخدم مصلحة الدول الغنية فقط، حتى لو أدَّى الأمر إلى إلحاق أشد الضرر بالدول الفقيرة، وزعزعة اقتصادياتها، وزيادة فقرها، وتفشي البطالة فيها؛ مما ينتج عنه ردود أفعال عكسية ناتجة عن بعض أفراد تلك المجتمعات نتيجة البطالة والجهل تكون عواقبه وخيمة على تلك البلدان، وغالباً ما تتصف ردود الأفعال تلك بالعنف والأعمال التخريبية. ويضيف الإرهاب: أي إنني في الغالب نتاج طبيعي للوجه القبيح منك، وهو الإرهاب الاقتصادي، فعندما يأتي أناس مصلحون يعرفون كيف يتعاملون معك ويوجهونك بطريقة مثالية بعيدة عن حب الذات وإلحاق الضرر بالآخر؛ فإني أختفي تماماً ولا أظهر أبداً. فرد عليه المال قائلاً: إنه يستحيل أن أكون سبباً لوجودك، فأنا وأنت مختلفان تماماً، ولا يمكن أن نلتقي في مكان واحد؛ فالبيئة التي أعيش بها تتطلب توفر مناخ ملائم خالٍ من كل ما يُنَغِّص عليَّ ويعكِّر صفوي ويتسبب في هروبي، فأنا في حقيقة الأمر جبان جدًّا أهرب لأتفه الأسباب، فإذا لم تتوفر لدي بيئة آمنة مطمئنة تشجعني على القدوم فإني لا يمكن أن أعيش في بيئة مملوءة بأصناف المنغصات الأمنية، من رشًى وضرائب وغش وتدليس، فما بالك بالعنف والترويع والقتل والإرهاب بشتى أصنافه وأنواعه، فعلاقتي بالأمن علاقة مطردة متلازمة، ولا يمكن لي أن أعيش بدونه. فقال الإرهاب: أنت تدَّعي المثالية وارتباطك بالأمن والتنمية وعزة وشموخ المجتمعات البشرية،وليس لديَّ اعتراض على ذلك, ولكن ألا تعلم أنك أنت السبب الرئيس في وجودي؟! فسأله المال: كيف أكون سبباً في وجودك وأنا أخافك وأخشاك كما تخشى النار الماء؟! فقال الإرهاب: بالطبع، فمحاولة بعض الدول الغنية الاستيلاء على خيرات الدول الفقيرة بمختلف الأساليب والطرق، ودأبهم على ذلك بطرق غير مشروعة مدعومة بنظريات وآراء وأفكار تصب في مصلحة تلك الدول دون إعطاء أي اعتبار للدول المتضررة، بل محالة فرض تلك النظريات بأشكالها المختلفة وبمسمياتها المتعددة؛ كالعولمة والرأسمالية والديمقراطية، والعمل على فرضها بالقوة على الطرف الأضعف دون مناقشته أو المفاهمة معه، وبغض النظر عن ثقافة ذلك المجتمع وعاداته وتقاليده، يعدُّ شكلاً من أشكال الاستبداد في فرض الديمقراطية أو ما يمكن أن يسمَّى تجاوزاً: إزالة النجاسة بالماء النجس. وكذلك الحال مع العولمة التي ترمي إلى التقارب والافنتاح التام بين الشعوب وجعلها كقرية واحدة تتعامل مع بعضها البعض، ولكون الدول الغنية مهيأة بشكل كامل يفوق بأضعاف الدول الفقيرة التي تُجبر في مثل هذه الحالة على خوض منازلة غير متكافئة معها محسومة ومعروفة النتائج قبل أن تبدأ، فيتسبب كل ذلك في إثارة بعض الشعوب العاجزة، وتعبر عن رفضها التام لذلك بتصرفات تتَّسم بالعنف في أغلب الأحيان. فقاطعه المال قائلاً: ولكن كل تلك الأنظمة العالمية التي ذَكَرْتَ جيدة وتؤدي إلى رفعة الدول الفقيرة وانتشالها من فقرها. فقال الإرهاب: يبدو لك ذلك، أما أنا وأتباعي وكثير من المنصفين -وهي من المرات النادرة التي أتفق وإياهم على وجهة نظر واحدة- فنرى خلاف ذلك؛ حيث إن تلك الأنظمة، وخاصة العولمة، بدأت تظهر نتائجها باديةً للعيان؛ حيث زادت الغنيَّ غناءً، والفقير فقراً، وجعلت نصف ثروات العالم في أيدي أشخاص لا يتجاوز عددهم الخمسمائة شخص في أنحاء المعمورة، فبدأوا يُغالون في الأسعار، ويقلِّصون الوظائف، ويخفِّضون المرتبات؛ مما ينتج عنه استياء شعبي لا يُقِرُّه العالم بأسره، فالبعض يتعامل معه بتبعية ويستكين لذلك، والبعض الآخر -وهم فئة المتعقلون- يحاولون التعايش معه بعقلانية والاستفادة منه دون تعريض شعوبهم وبلدانهم لأخطاره. أما أنا وأنصاري فنتعامل معه بكل عنف محاولين القضاء عليه وتعطيل مصالح القائمين عليه. فقال المال: أنا وإن كنتُ لا أُقِرُّ مَن يتعامل بمثل هذه الطريقة، ويحاول استغلالي للسيطرة على العالم بأسره والتحكم بمقدراته وخيراته وحرمان البشرية مني ومن الانتفاع بي لقضاء مصالحهم وتلبية احتياجاتهم، فإني على الجانب الآخر لا أُقِرُّ الطريقة التي يتعامل بها أنصارك، ويحاولون من خلالها إسماع آرائهم وإيصال كلماتهم إلى العالم، فهذه الطريقة لا تزيد أولئك إلا جشعاً، ولا تُكسبكم إلا مزيداً من الفقر، وتسلبكم احترام المجتمعات في كل مكان، بل وتشجع أصحاب رؤوس الأموال والمتحكمين فيها على سحبها من بلدانكم، وحرمانكم من الانتفاع بالجزء اليسير الذي قدروا لكم أن تحصلوا عليه، وكان بإمكانكم التعايش مع الوضع بهدوء ورويَّة، والتفكير لإيجاد طريقة تُخرجكم من المأزق الذي وضعتم أنفسكم فيه عن طريق العمل الجاد والدائم، ومحالة الاستفادة ممَّن سبقكم والتعلم منهم، ومعرفة الطرق التي من خلالها سيطروا على العالم وخيراته، وأخذ النافع منها وما يتواكب مع معتقدكم ودينكم والعمل به، ونبذ الضار والتحذير منه، وتلك أفضل كثيراً من الحيلة المستخدمة في الرد بإراقة دماء الأبرياء والانتقام منهم دون ذنب اقترفوه ودون القدرة الحقيقية على الوصول إلى المتنفذين وأصحاب القرار والمسيطرين الحقيقيين الذين لا يُرعبهم صوت الرصاص إطلاقاً بقدر ما يخيفهم فكرة اقتصادية تسحب البساط من تحت أرجلهم.
|