من الصِّفات الّتي يحرص عليها العربي الكرم، فهو لم يكن يتورع عن تقديم (جواده) فوق طبق شهيٍّ إن زاره ضيف، وكان مرعاه خالياً...، ومن ثمَّ فإنَّه بمثل هذا الكرم يتنازل عن كلِّ شيء يخصَّه (فداءً) لجوده، لأيٍّ ممَّن يرغب في شيء ممَّا عنده، ناهيك عمَّن يحتاج إليه.. أو عمَّا يقتضيه الموقف!!، فالعربي ذكيٌ في المواقف، وهو لا يتأخر عن كسبها فيقدِّم ما يملك، بما في ذلك الدار، والدَّابة، والأرض، والمرعى، واللّقمة، والقرش، والكساء، والنَّصيحة..، وهو فيَّاضٌ في تقديم عطائه حيث يذهب ويأتي، يقلُّ ويكثر وهو وسيلة التَّعبير عن (اليد الطولى) في كرم هذا العربي حين يؤمُّه من يريده، أو يمتدحه، أو يقصده... أو يحتاج إليه وربَّما لسدِّ بابٍ من الأبواب الّتي لا طائل من إبقائها مفتوحةً!!
ولم يبق في تاريخ العربي من باب للكرم إلاَّ وفتحه هذا العربي على مصراعيه وأشاعه في آناء الليل، وأطراف النهار، وعبَّر عن هذه الإشاعة بترك أبوابه مشرعةً مفتوحةً، وقدوره مطبوخة!!، وأنكر على الصَّادين بأبوابهم المغلقة، وبأيديهم المغلولة..., وشان البخلَ وذمَّ البخلاء، على اختلاف أسماء وأشكال البخل... وأساليبه وطرقه...!!
ولذا توارث العربي في أجياله التي أُعقبت إلى يومنا هذا بتناقل (جينات) الكرم في دمائها، ومن ثمَّ تسلسلها في صفاتها، وتمثُّلها في سماتها، ولم يكن يُعنيها أن توصم بكرمها بالخرق، أو بالتبذير مع اختلاف الأوجه، فالكرمُ في كلِّ أوجهه وأشكاله وأحجامه ووسائله مفخرةٌ وليس منقصةً.
وعلى سبيل التَّمثيل بكرم العربي الذي لا تزال بوادره قائمةً في سلوك الأفراد حتى يومنا الحاضر أن التقيت قبل أسبوع سيدةً أوروبيةً ذات منصب رفيع أُعجبتْ بشيء معي فتقدَّمتُ به إليها فذكرتْ لي وهي محرجة بأنَّها في كلِّ مرة تشاهد شيئاً يثير اهتمامها ويدفعها للتَّعبير عن استحسانها مع العرب إناثاً ورجالاً فإنَّها بعنوة (التَّعود) تبادر بإظهار هذا الاستحسان وتُفاجأ بأنَّ ما استحسنته، وأثنت عليه، من باب التَّقدير لذوق صاحبه، يُقدَّمُ لها بلا تردد، ودون نقاش، وبيسرٍ، وأريحيةٍ، زَهُدَ ثمنُه أو ارتفع...، وفي كلِّ مرةٍ تَعِدُ نفسَها بعدم الوقوع في شراك مفارقة العادات، أو الطِّباع، كي تنجو من مآزق كرم العرب وعفوية تصرُّفها غير أنّها تقع فيه...، ولقد أثار شهيتي للحديث عن هذا الكرم المتوارث (الحاتمي) منقطع النظير لدى العربي، ما يحدث الآن من ضجيج كبير يتنازع فيه (الرَّبع) أموراً فكريةً، كلٌّ يفيد بأنَّها له، وتعود (ملكيتها) إليه!! ممَّا ذكَّرني بكرم العربي، وتساءلتُ: لماذا لا يمتدُّ كرمُ العربي إلى أن يقدم مشاريعه الفكرية أيضاً، هديةً غير مأسوف عليها لغيره... وطالما أنَّه يحيا حياةً عقليةً ونفسيةً وفكريةً جيدةً بحمد الله تعالى فإنَّه سيكون قادراً على عطاء أجدَّ، وأكثر أهميةً، ومناسباً للزمن الذي نعيش، ومحققاً لغاياته، وحاجاته، وعلى وجه التَّحديد تلك الغايات النَّاشدة لانتشال هذا العربي الكريم، من هوَّة السقوط والإحباط، على إثْر ما توصَّل إليه من سحقوه بقوَّة العطاء الّذي أوصلهم إلى المريخ، ومكَّنهم من الحصول على عيِّنات من تربته ربَّما تتيح لهم استخدام الهيدروجين كقوةٍ بديلةٍ عن البترول والمعادن، ولتكون له طاقات جديدة تزيد في دحر هذا العالم العربي الذي يكابد في أمر إثبات لمن تعود هذه الفكرة، ولمن تكون (ملكية) هذا المشروع؟!.
فيا كرماء تنازلوا، فالوقت يضيق!!.
|