بدأ يردد كثير من مريدي الإصلاح دعوى تقنين القضاء لمصالح زعموها، وعلل عليلة توهموها, وإني لأذكرهم أن حسن القصد ليس كافياً لحسن ما يظنون أنه إصلاح, وليتقوا الله في أن يكونوا سبباً من أسباب الدعوة إلى أمر أجمع العلماء على بطلانه, فليس هو من موارد النزاع حتى يغض فيه الطرف أو يسمح بإجراء المصالح المزعومة, فإن معنى تقنين القضاء وإلزام الناس من القضاة والمحكومين به أن المسائل الاجتهادية التي يسوغ الخلاف فيها يلزم الناس والقضاة بأحد هذه المسائل دون الأخرى, وإن كان هذا القول الملزم به مرجوحاً عند القاضي (المتحاكم إليه), وهذا ما لا يجوز في شرع الله بحال، وهو مخالف لكل دليل يأمر بالرجوع الى الكتاب والسنة الصحيحة, والتحاكم إليهما؛ لأن القاضي إذا حكم بين الخصوم بالقول المرجوح دون الراجح الثابت عنده بدليل الشرع؛ فإنه لم يحكم بما أنزل الله، ولم يرد التنازع الى الله ورسوله، ولا الاختلاف الى حكم الله.
قال ابن قدامة في المغني: ولا يجوز أن يقلد القضاء لواحد على أن يحكم بمذهب بعينه, وهذا مذهب الشافعي ولا أعلم فيه خلافاً؛ لأن الله تعالى قال: {فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ}، والحق لا يتعين في مذهب, وقد يظهر له الحق في غير ذلك المذهب, فإن قلده على هذا الشرط بطل الشرط. وفي فساد التولية وجهان بناءً على الشروط الفاسدة في البيع أ.هـ (وانظر نحوه لابن القيم في أعلام الموقعين 4-185).
وقال الإمام الشافعي: أجمع العلماء على أن مَن استبانت له سنة النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد كائناً مَن كان أ.هـ.
ومَن حكم بين الناس بخلاف ما استبان له من شرع الله فقد خالف الإجماع. وقد أطال الإمام ابن تيمية تقرير هذه المسألة ونقل الاجماع فيها في عدة مواضع، شأنه في ذلك شأن العلماء الآخرين الذين نقلوا الاجماع فيها, فكان مما قال (35-373): وهذا إذا كان الحكام قد حكم في مسألة اجتهادية قد تنازع فيها الصحابة والتابعون، فحكم الحاكم بقول بعضهم وعند بعضهم سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تخالف ما حكم به, فعلى هذا أن يتبع ما علم من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأمر بذلك, ويفتي به ويدعو إليه ولا يقلد الحاكم, هذا كله باتفاق المسلمين أ.هـ.
وأرجو ألا يظن ظانٌّ أن هذا اجتهاد خاص من الإمام ابن تيمية لا يلزم به أحد، كلا؛ فإن هذا ليس من اجتهاده ولا من المسائل الاجتهادية، بل من المسائل الإجماعية, وإنما هو نقل الإجماع كغيره من أهل العلم, وفرق بين اجتهاد آحاد العلماء ونقلهم للإجماع؛ فإن الثاني ملزم دون الأول، إلا اذا اتضح الدليل. فأرجو التنبه.
ثم إن هذه الدعوى أُثيرت في حياة الإمام المصلح الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -رحمه الله- فعرضها على علماء زمانه، فأجمعوا على ردها -رحمهم الله-.
والكلام حول هذه المسألة وما يظنه بعضهم دليلاً ومصلحة يطول, لكن أذكِّر كل كاتب وقائل بأن الله عند قلمه ولسانه. وفي هذه المسألة كتابان مفيدان، وهما: (تقنين الشريعة.. أضراره ومفاسده) للشيخ عبدالله البسام -رحمه الله- و(التقنين والإلزام.. عرض ومناقشة) للشيخ بكر أبوزيد -شفاه الله-.
|