* لندن - خاص ب(الجزيرة):
يعتقد الكثيرون أن الجزء الأكبر من أسباب نشوء جماعات العنف المنتسبة للإسلام تم استيراده من الخارج, من قِبَل قوًى أو جماعات جهلت وسطية الإسلام وسماحته, وغابت عنها تعاليمه السمحة, ومبادئه الراسخة, لكن عدد من قيادات العمل الإسلامي والدعوي في الخارج ترى أن لنشوء جماعات العنف أسباباً أخرى, بعضها يرتبط بتغيرات السياسة الدولية, والعجز العربي والإسلامي عن حماية الحقوق المشروعة للشعوب المسلمة في فلسطين وكشمير وغيرها.
ومن هؤلاء د. صهيب حسن عبدالغفار مدير مسجد التوحيد بلندن ورئيس جمعية القرآن الكريم ببريطانيا, والذي يؤكد أن لعبة السياسة الدولية منحت جماعات العنف مبررات وجودها قبل أن تنتبه لخطرها، كذلك فإن بعض الأنظمة العربية والإسلامية تتحمل جانباً من مسؤولية ظهور هذه الجماعات.
في هذا الحوار يطرح لنا د. صهيب عبدالغفار رؤيته لأسباب نشوء جماعات العنف, ومدى مشروعية وجودها. وفيما يلي نص الحوار:
* بدايةً، نسأل عن رؤيتكم لعوامل نشوء تيارات العنف المنتسبة إلى الإسلام في زماننا هذا؟ وما صلتها بتيارات الغلو القديمة؟
- إن من أسباب الصحوة الإسلامية في العصر تحقق فرض الجهاد في أفغانستان في الثمانينيات ضد غزو روسيا الغاشم لبلاد المسلمين هناك, وقد لاقى ذلك قبولاً وتشجيعاً مبرَّراً من العلماء والحكَّام في عدد من الدول الإسلامية وغير الإسلامية, وعلى رأسها أمريكا. كذلك الجهاد في كشمير ضد الاضطهاد الهندوسي المكشوف لمسلمي كشمير المسلمة, كذلك دعم المقاومة الفلسطينية ضد القوات الصهيونية الطاغية. وكان من المفروض أن يبقى هذا الجهاد ضد القوى الكافرة، غير أن خيبة الأمل التي خلفتها الأحداث في فلسطين خاصة؛ حيث إن أمريكا بقيت تساند إسرائيل بالعدة والعتاد, كما أنها غزت أفغانستان بدون مبرر شرعي, وبعدها العراق, ولَّدت كراهية شديدة لدى الشباب المسلم المعاصر, وقد وجد بعضهم مُتنفَّساً في فتاوى وإرشادات صدرت من أنصاف العلماء الذين فتحوا باب التكفير على مصراعيه, وتكلموا بلغة غير متَّزنة؛ حيث أجازوا إراقة الدماء لمخالفيهم, سواء كانوا من المسلمين أو غيرهم. ولا شك أن العجز العربي عن الدفاع عن فلطسين عملياً, واستبداله بنعرات برَّاقة, وبيانات مموَّهة, له دور كبير جدًّا في توليد موجة العنف لدى هذه التيارات التي لم تجد غير العنف لباساً ومنهجاً, فمنذ أحداث صبرا وشاتيلا يشاهد العالم كله, بفضل التقنية الحديثة, على شاشات التلفزيون ما يجري للفلسطينيين من تقتيل وتشريد وهدم منازلهم, واستشهاد كبيرهم وصغيرهم, من غير أن يحرِّك ذلك ساكناً لدى أصحاب القوة والنفوذ على الساحة الدولية, فكان من الطبيعي أن تنقلب حركة أطفال الحجارة على مرِّ السنين إلى عمليات انتحارية؛ حيث لم يُتْرك لهذا الشعب المظلوم أي خيار. لكن للأسف فإن بعض الشباب اتَّخذ هذا الأسلوب ضد إخوانهم المسلمين بحجة النكاية بهم, وتكفير المجتمع, وشتَّان ما بين فلسطين المحتلة والدول الإسلامية الأخرى؛ حيث يجب أن يكون الشعار إسداء النصيحة بالطرق السلمية إذا وُجِد منكر؛ فإن إحداث الفتنة في بلد آمن جريمة لا تُغتفر.
* لكن ألا ترى أن سلوك هذه الجماعات المتطرفة يخرج عن ضوابط تغيير المنكر باليد؟
- تغيير المنكر فريضة على كل مسلم عموماً؛ لقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} (سورة التوبة)، وعلى ولاة الأمر خاصة؛ لقوله تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ}, ولقوله صلى الله عليه وسلم: (مَن رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان). وبما أن كل شخص راع وهو مسؤول عن رعيته, تقع مسؤولية تغيير المنكر باليد (أي بالقوة) على كل شخص حسب حدود مسؤوليته, فالأب مثلاً مسؤول عن عائلته بمَن فيهم الزوجة والأولاد, ومدير المكتب أو الشركة عن موظفيه، والمحافظ لمدينته عما يجري في مدينته, والأمير لمنطقته, والوزير في وزارته, والملك أو الرئيس في حكومته, وقد يكون هناك منكر فَشَا في المجتمع ولم يتصدَّ له أصحاب النفوذ بالتغيير, فماذا يجب على الغيورين على دينهم؟ هل عليهم أن يسكتوا أو يحاولوا تغيير هذا المنكر بالطرق المذكورة في الحديث؟ لأن الأمر الوارد في الحديث عام؛ حيث قال: (من رأى منكم منكراً.. إلخ), لكن ثمة أمور يجب على المرء أن يستوثق منها قبل أن يقدم على استعمال القوة؛ أولاً: التحقق من هذا المنكر أنه منكر فعلاً في نظر الشرع, ثانياً: هل لديه القدرة أو القوة الكافية لردع هذا المنكر؟ ثالثاً: هل يزول المنكر جزئيًّا أو كليًّا إذا قام بإزالته؟ رابعاً: بعد إزالة هذا المنكر بعينه هل من الإمكان أن يحدث منكر مماثل أو ما هو أكبر منه من جرَّاء عمله هذا؟ فإذا كان الأمر دائراً بين النقاط الثلاث الأولى لزم عليه تغييره, أما إذا كان الأمر قد يصل إلى النطقة الرابعة فلا يقدم على تغييره بالقوة, بل يلجأ إلى الدرجة الثانية، وهي الإنكار باللسان, ويدخل فيه الإنكار بالقلم، شريطة أن لا تترتب عليه مفسدة كبيرة, فمثلاً: السعي في إزالة خمارة في حي سكني في بلد مسلم يختلف تماماً عن السعي في إزالتها في بلد غير مسلم؛ حيث تترتب عليه في الحالة الثانية مفاسد أعظم من وجودها بينهم.
* ما مدى مشروعية الجماعات الإسلامية المعاصرة في ظل وجود دولة وحكومة؟
- للأسف الشديد، إن معظم الحكومات الإسلامية, باستثناء دولة أو اثنتين أو ثلاث، لا تقوم بمسؤوليتها في تثقيف عامة الناس بالثقافة الإسلامية, أو عمارة المساجد والإنفاق عليها, كذلك إقامة مدارس لتحفيظ القرآن الكريم ودراسة العلوم الشرعية, أو جهود الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, بالإضافة إلى إغاثة الملهوفين والمحتاجين, ونشر كلمة الإسلام داخل البلاد وخارجها, والرد على كل مَن يطعن في الإسلام أو في نبي الإسلام. وهذا التقصير أعطى هذه الجماعات الإسلامية الفرصة للقيام بهذه الأعمال؛ لأن العمل الجماعي يفيد أكثر من العمل الفردي, فلا بأس أن تكون هناك تكتلات اجتماعية لتحقيق الأمور المذكورة وما شابهها, على أن تراعي هذه التكتلات ألاَّ يكون في حسبانها أنها هي الجماعة الوحيدة التي يد الله عليه, أو هي الوحيدة التي معها الحق دون سائر الجماعات الأخرى, وألاَّ تحتسب أن أميرها أو رئيسها كخليفة المسلمين، فله البيعة التامة في المنشط والمكره, وألا تحتقر الجماعات الأخرى وتزدريها بالقول أو العمل, إنما تعمل في حدود دستور بلادها الذي ينظم أمر الجمعية, أو الجماعة وأعضائها, بدون أن تجعلهم طرفاً متصارعاً مع الحُكْم القائم في البلد, وما أحسن ما قال قائل: إن الجمعيات الإسلامية المتعددة في مجتمع ما كأجنحة الطائر, فهي إذا كانت مجتمعة ومتوافقة تساعد الطائر على الطيران, أما إذا كانت متخالفة أو معادية فيما بينها فإنها تجعل هذا الطائر يهوي في مكان سحيق.
* ترفع بعض الجماعات المتطرفة شعارات لتكفير المجتمع والخروج المسلح على الحاكم المسلم، فكيف يمكن التصدي لهذه الدعاوى؟
- الدين النصيحة, كما ورد في حديث رواه تميم الداري, وهو لله ولرسوله ولكتابه ولعامة المسلمين وأئمتهم, ولا يجوز أصلاً الخروج على الحاكم المسلم إلا إذا وُجد منه الكفر البواح, كما أنه لا يجوز لأحد أن يُكَفِّر أخاه المسلم, راعياً كان أو رعية, إلا إذا تحقق هذا الكفر بدون أدنى شك. ولا ريب أن هناك دعوات إلى التكفير والخروج المسلح على الحاكم المسلم في كثير من البلاد المسلمة, إما لأن حُكَّامها لا يطبِّقون الشريعة الإسلامية, أو وُجد منهم ركون إلى الكفَّار الظالمين الطغاة. ومعالجة مثل هذه الدعوات تكون على صعيدين؛ الأول: سلوك عملي من قِبَل العلماء الصادقين المخلصين, وجهاد دعوي لإبانة الحق. أما الأمر الأول، فإذا كان هناك أصحاب علم يتَّقون الله تعالى حق التقوى ولا يُبالون في الله لومة لائم, بحيث ينكرون على المنكر المتفشي في المجتمع بالكتابة عنه مثلاً في الصحف والجرائد, وبإسداء النصيحة إلى الحكَّام بطريق المعرفة الشخصية إذا وُجدت, أو بطريق الكتابة إليهم وإبلاغهم بالأمر المذكور, فهذا مما يُثلج الصدور ويكبح من جماح دعاة التكفير الذين يرمون عادة العلماء الحق بأنهم أصحاب الدينار والدرهم, وبأنهم يسكتون على المنكر حتى لا تنقطع أرزاقهم. فإذاً المسؤولية تقع على عواتق أمثال هؤلاء العلماء؛ ليتأسَّى بهم الناس في الإنكار على المنكر بدون خروج على الحاكم, ولهم في ذلك أسوة طيبة في مثل الإمام مالك في قضية طلاقه المُكرَه, وفي الإمام أبي حنيفة في رفضه لمنصب القاضي تورُّعاً, وفي الإمام أحمد في مسألة خلق القرآن. وأعجبني في هذا الشأن مقال كتبه فضيلة الشيخ صالح الفوزان بخصوص موقف المسلم من قضية الولاء والبراء؛ حيث ندَّد بأولئك الذين ينادون بحذف هذه المادة من كتب المناهج, فذكَّرهم بالآيات التي تأمرنا صراحةً بموالاة المؤمنين ومعاداة الكفار المحاربين خاصة.
أما الأمر الثاني، فإنما يتم بمناقشة أصحاب هذه الدعوات كما ناقش ابن عباس الخوارج في عصره مناقشة علمية رصينة يقتنع بها كلُّ مَن أراد أن يصل إلى الحق.
* بعض الجماعات ترفع شعار تحكيم شرع الله في البلدان الإسلامية التي تحكمها نظم علمانية, فما هو السبيل الرشيد لتحقيق هذه الغاية؟
- منذ منتصف القرن الأخير الثاني وعدد من الحركات الإسلامية كانت تصبو إلى هذه الغاية؛ مثل جماعة الإخوان المسلمين في بعض البلاد العربية, والجماعة الإسلامية في باكستان, وكلتاهما أرادت تحكيم الشريعة الإسلامية في البلاد الإسلامية, ولم يتحقق لكلتيهما غايتها, حتى بعد مُضِيِّ نصف قرن على نشأتهما، وذلك لسببين: أن الحركة الأولى لجأت إلى العنف بعض الشيء لتحقيق غايتها, ولكنها قُوبلت بقوة الحديد والنار, ويجب أن نُدرك أنه كان بالإمكان في الزمن الغابر, لرئيس قبيلة من القبائل, أن يثور ضد الحاكم إذا كانت القبيلة تساعده وتقف بجانبه، وهو في هذه المواجهة يتصارع مع قوة شبه متكافئة؛ حيث إن الحاكم يستعين بقبيلته أيضاً، وكانت هناك فرصة أو إمكانية الغلبة. أما في الوقت الحاضر, فالدولة تتمتع بجيوش نظامية مُدرَّبة, ولديها رصيد من الآلة الحربية التي لا توجد لدى المنازع؛ لذلك ليس من المعقول ولا من الحكمة أن تلجأ حركة إسلامية على صدام مسلح مع الحكومة؛ لأنها هي الخاسرة أولاً وآخراً. إذاً لم يتبقَّ لديها إلا الطرق السلمية والأساليب التي تسمح بها النظم الحالية لتحقيق مطالبها؛ مثل:
1- تثقيف عامة الشعب بالثقافة الإسلامية وإقناعها بضرورة التغيير.
2- مطالبة الحكومة بالانصياع لمطالب الشعب المسلم؛ لأنها تدَّعي الديمقراطية كأفضل طرق الحكم.
3- اتخاذ جميع الطرق المتاحة للاحتجاج حسب القانون السائد في هذا البلد أو ذاك.
4- السعي للوصول إلى البرلمان؛ حتى تكون للنواب المسلمين فرصة لتغيير النظام السائد وتحقيق الشريعة.
وأرى أن كلتا الجماعتين أغفلتا النموذج الذي قدَّمته حركة الشيخ محمد بن عبدالوهاب الإصلاحية قبل قرنين, والتي أسفرت عن قيام المملكة العربية السعودية التي جعلت من القرآن والسنة دستوراً لها, كما أنها أصبحت الدولة الوحيدة في العالم التي طبَّقت الشريعة الإسلامية, وطهَّرت البلاد من الشركيات والبدع والخرافات التي تسود العالم الإسلامي بأجمعه, وتطورت في تاريخها الطويل إلى أن ظهرت في مظهرها الحالي، وهي دولة وطيدة الأركان، راسخة البنيان, شاهدة للإسلام للعيان. والجدير بالذكر أن الشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- حقَّق ما أراد من تحقيق الشريعة بالحوار والحجة, دون تطلُّع إلى حُكْم أو سلطان. وقد حصلت مثل هذه الفرصة للجماعة الإسلامية في باكستان زمن الرئيس الراحل ضياء الحق، غير أن الجماعة أبت إلا أن يكون الحُكم بيديها, فضاعت الفرصة, ولا يزال الحُكم بالنسبة لها حُلماً من الأحلام، أو سراباً بقَيْعة.
* ألا تتفق مع القول بأن سلوك تيارات العنف يؤثر بالسلب في مستقبل الصحوة الإسلامية؟
- الصحوة الإسلامية تأخذ طريقها الى الازدهار والتوسع بما يملكه الإسلام ذاتيًّا من سماحة واتفاق مع الفطرة السوية, وهذا الذي أقضَّ مضاجع أعداء الإسلام, فراحوا يبذلون جهوداً جبَّارة عسكريًّا وثقافيًّا لفرض الهيمنة على الدول الإسلامية. والسبيل الوحيد للتخلص من هذا الشيطان المارد هو أن تقيم الدول الإسلامية جبهةً موحدةً للوقوف ضد هيمنة هذه القوى المعادية, ورفض مطالبها، وعدم الخضوع لإملاءاتها. وإذا لم تفعل ذلك فإن العنف سيجد طريقه إلى الشباب الحائر الطائش, الذي يشعر بمرارة الظلم والعجز, ومثال ذلك: فلسطين المحتلة مع دولة الصهاينة, مع الفارق في القوة؛ فإسرائيل عندما لم تستجب لمطالب الفلسطينيين العادلة لم يَبْقَ لديهم إلا العنف إزاء جبروت الدولة الصهيونية. فَلْتَسْتَجِب الحكومات الإسلامية لمطالب الشعوب المسلمة، وذلك بتحقيق شرع الله في بلادها.
|