مازالت ماثلة في ذهني تلك الفترة في بدايات الثمانينات الميلادية، حينما كانت الحداثة عبارة عن تهمة مخيفة تطول المعتقد والولاء بل والمواطنة، بحيث أصبح كلٌّ يحاول أن يتفاداها ويتنصل منها ويدفعها عنه، هروباً من السهام النيرانية التي كانت تطلق عبر الكتب والمنشورات وأشرطة الكاسيت والمنابر، وكأن الحداثة كائن أسطوري مخيف سوف يقوم بإهلاك الزرع والضرع وفناء البلاد والعباد.
ويبدو اليوم بأن ذلك جميعه أضحى من التاريخ، فالحداثة مرت وحضرت ممتطية صهوة الزمن، مرافقة لنسيج الحياة، فهي إحدى خصائصه ومميزاته التي تتشج مع نسيجه وتبرز طبيعته المتبدلة والمتغيرة أي الحديثة، وما الحداثة إلا ابنة الصيرورة الزمنية المتبدلة إذا أردنا أن نرجعها إلى موادها الأولية البدائية قبل أن تتحول إلى تنظير فلسفي على يد فلاسفة الغرب.
وأقرأ اليوم ما تنشره جريدة الوطن من متابعة لردود فعل النقاد المحليين حول كتاب (حكاية الحداثة) ل(د. الغذامي)، واستياء عدد من النقاد المحليين المتميزين من اخراجهم من المرحلة التأسيسية للحداثة مثل د. سعد البازعي ود. سعيد السريحي، اللذين كانا يؤكدان على أن لهما اليد الطولى في التأسيس للمشروع الحداثي المحلي، وأنا هنا لا أود الحديث عن الخلاف بين الأساتذة الذين أحمل لهم جميعاً وافر التقدير، ولكن أتحدث تحديداً عن مشهد عجيب للصيرورة الزمنية المتطورة المتبدلة التي جعلت الأكاديميين على صفحات الجرائد يصرون على الحداثة وتبنيها فكراً وأسلوباً بل وتأسيساً، بعدما كانت في بداية الثمانينات الميلادية عبارة عن وصمة مشينة استهدفت الكثيرين من المبدعين والأكاديميين.
الزمن حينما يمر فهو يمر وفق شروطه الخاصة، ولا ينتظر إذن مرور أو (فيزا) من احد، هو يمر ويصحب في حقيبته السنة الإلهية في الكون التي لا تخضع للتخويف أو السدود أو التهم النيرانية، وها نحن اولاء جميعاً نرى الحداثة من حولنا في جميع تفاصيل الحياة، حتى في مكبرات الصوت الالكترونية المتطورة التي كان يستعملها البعض في الثمانينات بغرض اتهام الحداثة ومريديها بالمروق والزندقة.
تلك هي سنة الله في الكون ولن تجد لسنة الله تبديلا.
|