اقتراح من (مجتهد) في الشؤون الإدارية، يذهب مذاهب موغلة جداً في التخوف من الآخر والتحفظ على مخرجات فكره وسلوكه، يحمل مقترحه معه أينما ذهب ويفكر فيه مليّاً: كيف يمكن أن يكون هذا المقترح فعّالاً؟ فتتوارد الخواطر على لبِّ عقله المشحون بالعاطفة (التحفظية)، ليملي مكونات ذلك المقترح على رئيسه المباشر، مدعوما بثقافة (التحفظ) السائدة في بيئته القريبة، ومجملا أطروحته - الموغلة في الخوف من كل شيء - بالقضية المؤسسية لمؤسسته، وربما بالقضية الوطنية: الحفاظ عليها ورعايتها، وخاتما مقترحه ببيان أن الغاية الأسمى التي ينشدها تتمحور حول السيطرة على مجمل الخيوط والتحكم فيها. ولأن هذا المقترح كان يبدو برّاقا في زمن تسابق الناس فيه للتشدد بزعم السلامة، فقد ازداد الحماس لدى الرئيس المباشر الذي تبنى المقترح ورفع به للإدارة العليا مع مزيد من التشدد ليبدو هو أمام رئيسه الأعلى أكثر تشدداً ممن يدير شؤونهم، فتتحقق - بذلك - أهليته للعمل الإداري القيادي الذي (يجب أن يؤسس على المنهج الأكثر تشدداً)!!. وفي غمرة التسابق نحو الأكثر شدّة، والأحوط إدارياً، والأقرب للسلامة الآنية، ضاعت فرص عظيمة جداً للإبداع، خنقتها سياسة اللجان الإدارية المتتالية لإنجاز أو إجازة عمل أو فكرة يسيرة جداً كان يمكن أن يكفي لفحصها وإقرارها لجنة واحدة، أو جهة واحدة، أو مجلس واحد متخصص، أو ربما نظام وحسب، ولأن المسوغ المكذوب غالبا (مصلحة عامة) فقد توالدت المقترحات في هذا الباب، وكثرت الجان الإدارية في كل شيء حتى بات عدد من الإداريين طيبي الذكر يتباهون بأن أعمالهم تمر على عدد كبير من اللجان والمجالس حتى يتم إقرارها, وكأن هذا هو الأفضل وهو المنشود وهو الأقسط لواقع مجتمعنا وقضايانا.
ومرت السنون لنصحو مثقلين بتركة ضخمة من العقبات الإدارية المتمثلة في محطات الفحص والدراسة المعقدة جداً، المتراكمة جداً، وغير المتخصصة في أحيان عديدة، لتأخذ الأمور من الوقت والجهد ما لا تحتمل، وما لا يحتمله الناس، وما لا تحتمل المرحلة التنموية التي وصل إليها مجتمعنا الكبير، واليوم.. وصلنا إلى المعترك المهم، وإلى المعادلة الصعبة: من يعلق الجرس؟ من يستطيع أن يحمل قلمه ويقترح مقترحات أخرى مناهضة لما كان يقترحه الأولون؟ من يجرؤ على اقتراح التخفيف من العقابات الإدارية؟ وبأي حجة يقدم مقترحه؟ كانت المقترحات الأولى تبدأ من الحلقة الأضعف في السلم الإداري: ربما من موظف صغير، أو من رئيس قسم، أو من مستشار يجب أن يعمل، لكن تلك المقترحات - اليوم - باتت نمطاً إدارياً معتمداً من لدن أعلى الجهات الإدارية في مختلف القطاعات، ومستنداً إلى مبادئ يعتقد أصحابها أنها الأسلم والأصح،. فمن ذا الذي يتطلع إلى معاكسة التيار ومواجهة السائد ليقول للناس: هذا محل نظر. قد يكون الغلو الإداري الذي تعاني منه كثير من دوائرنا الحكومية - بشكل خاص - مفسدة عظيمة لواقع مجتمعنا الذي ربما كان أفضل لو أننا أتحنا للناس أن يتحركوا، وأن يبدعوا ممنوحين الثقة بأنهم أهل لها، ومحكومين بنظام ثوابي وعقابي دقيق يحدد الحقوق والواجبات والجزاءات بشكل يمكن أن يقوم على تنفيذه موظف بسيط ينجزه في دقائق معدودة، لأن الهيمنة للنظام العادل المتطور جداً، وليس للإداري أو للجان الإدارية المثقلة بالأعباء التراكمية، وبالثقافات المتهالكة، التي قد لا تُنتج أفراد مجتمع طموحين قادرين على فهم واقعهم وصياغة مستقبلهم كما يجب أن يكون بإذن الله. الأمثلة هنا كثيرة جداً، ومتناثرة في جميع مؤسساتنا ووزاراتنا، فهل أكون ممن حاولوا السبق؟ وأدعو لحلّ جميع اللجان الإدارية واستعاضتها بأنظمة متطورة في وقت قياسي؟ دعونا على أقل تقدير نتطلع إلى محاربة الغلو في كل مكان.
عميد كلية الدعوة والإعلام بجامعة الإمام.
|