رجاء العتيبي
قلما نجد عملاً مسرحياً يجمع بين اللذة الجمالية والنشاط العقلي باعتبارهما منظومة من التركيبات (العلاماتية) المعقدة التي تحتاج إلى حالة من الوعي العالي تجعل الممارسة المسرحية كمدينة مشرقة في ذات صباح.
ولكن مسرحية (الناس والحبال) التي نفذتها جامعة الملك عبدالعزيز في مهرجان الجنادرية المسرحي الماضي جاءت لتكون صرخة مدوية في بنية الوعي، أربكت النماذج التقليدية الماثلة في ذهنية جمهور مسرح الجنادرية، وذلك حينما جمعت(الممارسة الجمالية والفكر في آن واحد)، وغيبت اللغة كمادة بلاغية محترقة لتبرز شعرية الجسد لغة مفتوحة تصالحت مع كل القبائل والأقاليم والمدن، حيث بدا الجمهور المختلف أمام لغة موحدة لا يفصل بينه وبين(الناس والتراث) أي نوع من أنواع الإيمالات أو الكشكشات.
المسرحية التي ألفها فهد ردة الحارث وأخرجها شادي عاشور، كانت تصنع اللحظة المسرحية مشحونة بالمشاعر وردود الأفعال العنيفة تجاه كل ما هو غير إنساني بمفردات نفسية واجتماعية، وتحيل حركة الممثلين إلى زوبعة عنيفة ذات حركة ديناميكية وتصف فعلاً تعبيرياً مرئياً لجسد ممثلين هواة من طلبة الجامعة شكلوا مع مكونات الفضاء المسرحي حالة من التأثير العالي، في حين جاءت الموسيقى التعبيرية الصاخبة التي استمرت طوال العرض لتحيل المتفرج إلى دلالات خفية تصف(ساحة معركة ما)، مع الناس والأحداث والقرارات.
النص المكتوب لم يظهر في المسرحية كمادة منطوقة إلا في لحظات سريعة صاحبها صوت (هيلماني) فخم، في حين التصق النص في جميع مكونات العرض وظهر كمشهد بصري ذي إشارات سينمائية تماهياً مع الشرط الدلالي للمسرح.
المسرحية التي نالت أفضل عرض في المهرجان تؤسس لمشروع مسرحي بأبعاد جمالية مدفوع بحماس شباب يعشقون المسرح، في حين تبني المسرحية وعياً لنموذج مسرحي مغاير يتجاوز الأعمال المسرحية(السطحية)، الماثلة كنموذج ثابت في ذهنية الجمهور السعودي. إنها حالة مسرحية حري بنا أن نحتفي بها كممارسة مسرحية بارزة في لغة الجسد وكتجربة جمالية تكرس معايير الجمال في المسرح.
ونعضدها كاتجاه معلن لتأسيس خطاب مسرحي جديد بالنسبة لنا، على نحو يكسر نماذجنا المسرحية التقليدية.
وفوز المسرحية بأفضل عرض في المهرجان دفع هذا النوع من العروض مؤخرا أن يحتل مكانة عالية ليصبح قريباً نموذجاً يصادق عليه الكل إلى جانب النماذج الأخرى المتميزة التي لا نغمطها حقها.
ويبقى أخيراً.. أن نجل جهود المخرج الشاب شادي عاشور في محاولاته الدؤوبة في أن ينعطف بمسرحنا السعودي إلى اتجاه مغاير ليكون وجهنا المسرحي أكثر جمالاً بما يتوافق مع حقيقة المسرح، يجعلنا مادة مسرحية تحظى باحترام أكبر في حضور مسرح الآخر.
في حين نشيد بمدير المسرح الناجح الأستاذ عبدالله باحطاب الذي قدم المسرح بوجهة نظر المسرح ذاته وليس بوجهة نظر المسؤول، كما يفعل العديد من المسؤولين ممن ابتلي بهم المسرح، فيما نقدر الأجواء المسرحية الرائعة التي توفرها جامعة الملك عبدالعزيز بما يفوق العديد من الجامعات السعودية.
|