من يتحدثون عن الفيدرالية اليوم في العراق، سيتحدثون عن الانفصال والتجزئة غداً.. وإن قبلنا بالفيدرالية اليوم سنجبر على قبول الانفصال غداً.. لأن الانفصال سيأتي الاعتراف به من الخارج رغما عنا، كما حدث في (تيمور الشرقية) وستقره هيئات ومنظمات دولية تخضع للهيمنة الأمريكية التي تتبنى تحقيق الحلم الصهيوني، ومع اعترافنا جميعاً بأن الإدارة الأمريكية الحالية يمينية تتبنى جميع المخططات الصهيونية؛ فلا يمكن تجاهل كون هذه الفيدرالية هي أكبر فخ ينصب للمنطقة العربية والإسلامية برمتها.. فجميع دول العالم لا تخلو من وجود أقليات وأعراق وطوائف مختلفة استوطنوها، وهذا يعني كوننا المعنيين في خطة الفيدرالية هذه، فالأمر سيطبق علينا دولة تلو الأخرى لا مفر، فإن حققنا ذلك الاستسلام في العراق، الذي يمثل لأمريكا وإسرائيل النموذج الجديد الذي يعدونه للمنطقة، فسنجبر جميعاً على تنازلات تكلفنا تحقيق الحلم الصهيوني وتحويلنا إلى دويلات من فتات في المستقبل القريب.. إن تحققت تلك الفيدرالية.
إن الفيدرالية هي خطوة أولى وجوهرية نحو التجزئة والانفصال، فلن ننساق وراء تلك الخدعة.. لأن من يريد عراقا موحدا ويؤمن بوحدة أراضيه لا يثير أمر الفيدرالية، ولكن من يثير هذا ممن هم من داخل العراق.. لهم طموحات وتطلعات عواقبها مستقبلاً ستكون خطيرة للغاية وليس فقط على العراق بل على جميع دول العالم العربي والإسلامي، ولذلك لا يخفى على أحد أن هناك رغبة صهيونية أمريكية لتحقيق ذلك.. والآن الأمر يبدو جسا للنبض للشارع العربي وللحكام وللرأي العام العالمي، فإن تحقق هذا الحلم الصهيوني بأن تصبح هناك فيدرالية في العراق فتلك الخطوة الأولى المهمة في الاستراتيجية الصهيونية التي تعد المنطقة لمشروع الدويلات الصغيرة أو كما يقول المراقبون والمحللون السياسيون ستدفع بالمنطقة إلى التقسيم ومشروع الألف بلد.
والشأن العراقي يهمنا جميعاً كعرب وكمسلمين أكثر من أي وقت مضى.. أولاً لأن الصهيونية وأمريكا ستجعلان منه النموذج الذي تريدان أن تطبقاه على باقي المنطقة العربية والإسلامية برمتها (مسلوب القوى والإرادة خاضع لها ولإسرائيل). فإن خضع العراق لذلك وحقق تلك الفيدرالية؛ فهذا يعني أن نهيىء أنفسنا لتقبل فقدان المزيد من الأراضي العربية، بعد أن أثبت لنا التاريخ أن ما نفقده يصعب استرداده.. حرباً.. أو سلماً.
ثانياً: ما يحدث في العراق ليس بشأن داخلي، فالعراق ليس حراً مستقلاًَ الآن ولم يمتلك شعبه إرادته الحرة بعد، فلقد تعرض لغزو أمريكي - بريطاني ويعيش تحت وطأة الاحتلال مسلوب الإرادة والحقوق والثروة.. إنها الديمقراطية الأمريكية - البريطانية التي جاءت لحفر القبور.. إن الشعب العراقي لا يملك الكلمة الأولى والأخيرة في شؤونه الداخلية ولا في تقرير مصيره، فهناك من يقرر نيابة عنه، ويضع له دستوره ومناهجه التعليمية ويتصرف في كامل شؤونه وثرواته.. وما حدث في العراق لم يكن انقلاباً عسكرياً أو انتفاضة ضد حاكمه، بل من أسقط النظام السابق في العراق قوة خارجية، وهذا يفرق كثيراً في الأمر، مع إجماعنا جميعاً على أن صدام حسين وأعوانه هم طغاة ولكن المقابر الجماعية التي خلفها الغزو الأمريكي - البريطاني خلفت أضعاف ما خلفت المقابر الجماعية لصدام، وما زالت المقابر تملأ كل يوم بجثث الضحايا من المدنيين الأبرياء دون أن تحصى أو تعد.
ومن الأمور التي تزعج الجميع وضع المسلمين السنة في العراق، فليس لهم حضور فعال في مجلس الحكم ولم نر لهم نشاطا يذكر من مظاهرات سلمية، على غرار مظاهرة الشيعة السلمية التي ضمت أكثر من مائة ألف يرفضون الفيدرالية ويطالبون بالانتخابات ولم نر لهم أي دور بارز!! فهل على المسلمين السنة أن يدفعوا ضريبة باهظة الثمن لكون صدام حسين من السنة؟ لكن حزب البعث الذي ينتمي إليه صدام وأعوانه هو حزب سياسي، وفرض على العراق بأكمله وعلى كافة الطوائف والأعراف والانتماءات ويدرس في المدارس والجامعات فهو نظام الدولة!
إن عودة الملكية الدستورية في العراق هي أفضل الحلول؛ لأن ذلك لا علاقة له بعرقية أو طائفية أو أقلية، فتلك الملكية الدستورية كانت قائمة بالفعل في العراق قبل حزب البعث، وجميعنا يعلم والتاريخ يشهد على العمل الإجرامي الذي تعرضت له الأسرة المالكة في العراق بتفجير القصر بمن فيه من قبل رجال خانوا ما اؤتمنوا عليه.
وتقوم قوات الاحتلال اليوم في العراق بتبني سياسة (فرق.. تسد) تزرع الفتن بين التركمان والآشوريين والأكراد والمسلمين من السنة والشيعة، تريد تشتيت الشعب العراقي واستنزاف قوته وبعثرة صفوفه حتى تكمل مخططاتها وترسي قواعد الفيدرالية في المنطقة (ذلك الحلم الصهيوني الكبير)، لا تريد للشعب العراقي أن ينهض ويبني نفسه من جديد بإرادته الحرة ويدرك حقيقة واقعه، الأبعد ما يكون عن كل معاني الديمقراطية المتعارف عليها في العالم، بل تشغله بحروب طائفية وعرقية؛ ليسير نحو المزيد من الهدم والدمار لعقود قادمة، بعد أن كان بلداً تكنولوجياً مصنعاً ومنتجاً مكتظا بالعلماء والباحثين والأكاديميين والعقول الفذة.
إن قضية العراق كقضية فلسطين شأننا جميعاً عرباً ومسلمين لأن تبعات ما يحدث هناك نتحملها جميعاً معنويا ومادياً عرباً ومسلمين.
إننا نتابع مهازل بشكل يومي على الساحة السياسية العالمية وجميعها يتعلق بالعرب والمسلمين، فبعد أن أثير قانون محاسبة سوريا في الكونجرس الأمريكي وتم التصديق عليه من قبل الرئيس الأمريكي.. ومع استعمال ذلك المصطلح السحري والتهمة الجاهزة، بأن سوريا تسعى إلى امتلاك سلاح دمار شامل، وبعد أن أصبحت الإدارة الأمريكية الحالية بارعة في قراءة النوايا وما في ضمائر العرب والمسلمين للمستقبل، ورغم أن العالم ما زال يطرح السؤال الكبير على أمريكا وبريطانيا: أين أسلحة الدمار الشامل العراقية التي تهدد أمن أمريكا والتي قامت من أجلها الحرب؟
تجمع أمريكا اليوم بعض المغتربين في الخارج تطلق عليهم (أحزاب جبهة المعارضة السورية) لم نكن لنسمع عنهم من قبل! ظهروا فجأة على الساحة السياسية وهم كما قال المحللون السياسيون صناعة أمريكية بالطبع ويمولون أمريكا.. فهل يعقل أن مواطنين سوريين يحملون مشاعر انتماء ووطنية لوطنهم يطالبون في اجتماعهم الذي عقد في بروكسل بألا تقوم دول الاتحاد الأوروبي بالشراكة مع سوريا ويطالبون بمعاقبتها؟ فهل هذه المشاعر من الكراهية والحقد والتحامل ضد بلدهم في الخارج تصدر من مواطنين عقلاء وشرفاء؟ وخاصة أن سوريا ما زالت لها أراض محتلة في الجولان وقد أعلن شارون مؤخراً أنه سيقيم عليها مستوطنات. أين روح المحبة والوطنية والانتماء والإخلاص والفداء، التي لابد أن يحملها كل فرد سويّ تجاه وطنه والبلد الذي ينتمي إليه؟؟
توجد قلة في العالم متناثرة هنا وهناك من ضعاف النفوس، جاهزة دائماً للاستخدام ضد أي بلد حتى لو كان بلدهم، ليسيئوا إليه ولحكوماته أو حكامه.. ولكن من يمكن أن يصغي إلى هؤلاء؟ وأي مصداقية يحملون؟
من المهازل التي جدت على الساحة السياسية الآن ما طرحه عضو الكونجرس الأمريكي (أنتوني وينر) وهو مشروع قانون محاسبة مصر، بعنوان (مصر الإصلاح السياسي ومحاربة الإرهاب) ويقضي من خلال تفعيله في الكونجرس بمعاقبة مصر، وبحجب المعونة المالية التي تقدمها أمريكا لمصر سنويا والتي أقرت منذ مبادرة كامب ديفيد، وكأن العقوبات والحروب والتهديد والوعيد كلها أمور أوجدها الغرب للتعامل مع العرب والمسلمين وحدهم دون سواهم، لا وجود للدبلوماسية ولا للديمقراطية، ولا احترام للحريات ولا لحقوق الإنسان ولا للخصوصية.
إننا نعاني آلام جرح قديم ما زال ينزف بغزارة في فلسطين المحتلة، ونعاني آلام جرح جديد ما زال ينزف بغزارة في العراق المحتل.. فماذا يخبئ لنا المستقبل بعدُ..؟ وماذا تخبئ لنا الأيام القليلة القادمة؟
وقفة:
أحيي الأخ سليمان بن فهد المطلق على مقالته الرائعة بعنوان (حجابك تحدّ) الذي نشر في صفحات جريدتنا الغراء الجزيرة، فلطالما أتحفنا هذا القلم بالفكر المستنير وروعة الأسلوب والقيم والمثل العليا، كثر الله من أمثاله.
عضو عامل - هيئة الصحفيين السعوديين
عضو الجمعية السعودية للإعلام والاتصال
ص.ب 4584 جدة 21421 - فاكس جدة 026066701 |