أعلنت جائزة الملك فيصل العالمية فوز المشير عبدالرحمن سوار الذهب في فرع خدمة الإسلامة والمسلمين، وأي فخر هذا الفخر على رؤوس الأشهاد والفوز بجائزة ارتبطت باسم الملك فيصل رائد التضامن الإسلامي والراعي الحقيقي لقضايا الأمة في المحافل الدولية، وإن من بركاته رحمة الله بعد وفاته هذه الجائزة التي رعتها الدولة وتبنت فروعها رسمياً، وكل عام تتولى تكريم من خدموا الإنسانية بأبحاثهم واكتشافاتهم مجردة من أية عصبية أو مذهبية أو عرقية، ولا تخضع لأي هدف لايليق باسم الملك فيصل وسمعة المملكة العربية السعودية، وقد فرح خلق كثير هذا العام عندما أعلنت أمانة الجائزة فوز سوار الذهب لأنهم يعرفونه جيداً وخير مايعرفون عنه تخليه طواعية عن الحكم في السودان عندما اختير رئيساً للمجلس الأعلى العسكري الانتقالي عام 1985م.
مما جعله يحظى بتقرير عالمي واحترام شعبي حقق له الوعد الذي قطعه على نفسه بإعادة النظام الديمقراطي لجمهورية السودان، وسلم الحكم لمن انتخب عام 1986م، وبهذه التضحية بلغ مكانة بارزة في نفوس الناس، ولم يقتصر الأمر على ذلك التنحي بل رأس مجلس أمناء منظمة الدعوة الإسلامية في السودان التي شيدت مشروعات كبيرة لايمكن حصرها في هذا المقال القصير.
سبحان الله رجل يترك الرئاسة لينعم شعبه بالحرية والحضارة ورجل يتمسك بها ويدمر شعبه، والظروف التي يمر بها الشعبان تختلف تماماً بل إنه تجاهل كل نداءات الحق والحكمة التي أطلقها شرفاء العرب والعالم بناء على فقه يتناسل في عقلية تليق بتعقيد الزمن ورواياته ومؤامراته الضاربة في الباترياركية والاستبداد في ظل قوة فاضت رغوتها على جيرانها الآمنين بعد أن ربطت جينياً بين الحكم والسيف لتصدر هذا النموذج على هذا الشكل القذر من الفولكلور السياسي المملوء بالتوتاليتارية وقانونها النتن الذي ملأ الفضاء بدخان آلاتها وحرث الأرض بجنازير دباباتها وأزعج المرضى والأطفال والنساء بأزيز طائراتها العائدة للخدمة بأثر رجعي يحمل رقماً متخلفاً من الحروب العالمية الأولى والثانية في صورة لا تليق بهذه الألفية ومشهد لايليق بهذا الإنسان المحذوف استراتيجياً من تضاريس هذا الكوكب المطوب باسم الديمقراطيات المزيفة والحريات التي تصدرها البيوت الملونة. ويشهد على ذلك الرئيس المخلوع بثورته التي أكلت أبناءها وهجرت شعبها وسجنت مفكريها وطردت شعراءها وأدباءها، والذي لم يظهر على ألسنة الناس من ظهر على لسان المقابر الجماعية ودهاليز سجن أبي غريب، ليؤكد كل ما جرى ماقاله المؤلف المحترف ألبير كامو في كتابه المتمرد وهو يشكك بشرعية الثورات والانقلابات والتغييرات السياسية التي لم تجد ما يسند شرعيتها غير الترسانة المسلحة.
صدقاً أتمنى مثل أي عربي أن يحيا السودان ويتعافى من الحروب الأهلية والمشاكل الداخلية، لان هذا الشعب العظيم لم يذق طعم الراحة بسبب إغواء السرد للرواية الأفقية التي سال لعابها ليكتب تفاصيل المسرحية بلون الدم، وكل القراءات النقدية لفصول تلك المسرحية أبت إلا أن تحجب جمال النيل الأزرق وتدفن حقول القطن الابيض وتجتث سنابل القمح الخضراء، وما من أسرة سودانية كريمة الا دفعت ثمن تلك القراءات بالعملة الصعبة، وهذا لا يستحقه شعب عظيم يملك ذاكرة أدمنت التحرير والحرية ولكن الظروف حالت بين الأخ واخيه مما حرض العقل العربي المضرج بدمه وعاره وهزيمته ومواقفه على الاحتراق بنار هذه المرحلة المؤدلجة حتى النخاع والمملوءة بالأمهات اللاتي تجردن من كل صفة تحمل العطف والرحمة كأم المعارك وأم القنابل وأم القضايا وأم الكوارث والرجل الأصلع زوج عاجز يعيش بيدين هما أقصر من يدي طائر البطريك القطبي.
شكراً سوار الذهب وتحية صادقة لجائزة الملك فيصل التي علمت الشعوب والحكام أن الاحترام المجرد من الخوف والرجاء هو الشيء الوحيد الذي لا يمكن أن ينتزع من صدور الناس انتزاعاً، ولا يمكن أن ينسى، لأن صاحبه فرضه بأخلاقه فرضاً ليكتب في سويداء القلوب، بينما نرى رؤساء تمسكوا بالسلطة وحصلوا على نتائج 100% في الاستفتاءات الشعبية ولم تشفع لهم تلك النسبة ولم يغفر لهم ذلك الدم الذي كتب به الترشيح بعد سقوطهم من المطالبة الشعبية بمحاكمتهم بعد أيام قليلة بسبب جرائمهم في ذلك المستنقع السياسي المملوء بزواحف بعثية وقومية تكرس للاستبداد الذي أمطر واقع الأمة بالنكبة والنكسة والاجتياح والاحتلال، ومما زاد من تعقيد القضية أن حراس قرية الألفية الثالثة لا يقدمون إلا الجثث الآدمية قرباناً للذاكرة السياسية التي أدمنت السلاف البشري المعصور بالظروف والنظام والواقع وتفننت بالصناعات الحربية والبيولوجية والنووية وفشلت في علاج الأمية والأمراض الفتاكة وأصبح هم الرئيس أن يكون عملاقاً في مدفعه العملاق وقزماً في سياسته الخرقاء التي عرضت شعباً كاملاً للحساب بحجة نرجسية القائد ودكتاتورية المهيب، وقد أثبت علماء النفس أن سيكولوجيا أي دكتاتور ستكون لحظة السقوط والاعتقال أكثر مشاهد حياته إثارة, لأن صورة هذا المشهد ستعم عالمياً، ويكتب عنه بلغات العالم المختلفة كما كان يحب في حياته، أن تعلق صوره في كل بيت وتنصب تماثليه في كل زاوية ولكن هذه المرة بطريقة أكثر اشمئزازاً وانتشاراً لانها انتهت بفرض وصاية تحت معطف جنرال متقاعد أو حاكم يرتدي زياً عسكرياً ابتداء من الخوذة العسكرية وانتهاء ببسطال ثقيل، يختصر وراءه كل الصور التي التقطت للمهيب الركن بخاصة المشهد الذي انتهى على يد الطبيب الأمريكي وهو يسلم له فمه ولحيته في جو متوتر وأسلوب دراماتيكي بالقرب من جحر بحجم زنزانة، لا يستطيع كائن ما أن يتمدد فيه أو يمد يده إلى سلاحه الشخصي تحت ذريعة أسلحة الدمار الشامل وخطورته شخصياً على السلام العالمي مما أعطى بعض الدول العربية درساً قاسياً بعد أن ملأت الدنيا ضجيجاً بعداء الغرب ورفض أي حوار وقرار لا يخدم المواجهة المزعومة ثم تعلن تسليم أسرارها وخفاياها لعدو الأمس متجاهلين تلك اللغة القاسية التي وجهت بها اللوم للآخرين نصرة لدكتاتور العراق لتؤكد للشعوب العربية أن تماثيلها السياسية أوثاناً من تمر سيأتي اليوم الذي تؤكل فيه ولكن على يد من؟
اعتقال منظم باختصار يرافقه طاقم طبي يبث للعالم حمرة هذا الفم من حلكة دهليزه اختزالاً للتاريخ واختصاراً للدكتاتورية في هذا المستسلم لوجع الأسنان الذي طالما خلع أسنان الشعب وعلق لهم المشانق وطور لهم أدوات التعذيب في سجن أبوغريب والشعبة الخامسة وتلك التفاصيل أثبتت أساس نظرية اللفياتان، عند هويس، أي أساس العقد الاجتماعي المتجسد في المستبد بداية، إنه بالإمكان نظرياً وعملياًً قتل أقوى الافراد وأن الفرق في القوة الجسدية بينهم لا يبرر الحكم للحاكم المستبد، العقد وحده القائم على الخوف من الموت يمنحه السلطة المطلقة، ولذلك لا تعجب إذا عرفت أن ذلك الرئيس المخلوع أمر بجعل كلب حراسة يلتهم أحد خصومه في مشهد مخيف، لايقل عن تلك المقابر الجماعية لشعوب بلا هوية سواء في العراق أو في فلسطين، واسمعوا قصة وردت على لسان مواطن فلسطيني يسكن في منطقة مهجورة تظهر حجم المأساة التي يعيشها الأحياء والأموات في هذا الشرق الأدرد إذ يقول: إنه ذات يوم سمع صوت طائر غريب، فخرج لاستطلاع الأمر، فإذا به يرى طائراً وقد سقط منه شيء فذهب ليراه فإذا هو عظيم يد إنسان، وقام بحفر المكان فوجد جثثاً منهوشة وممزقة تختلط بالتراب، وبكل تأكيد تعلم تلك الجهات التي دفنت هذه الجثث وعرضتها للطيور والسباع أنه سيأتي اليوم الذي لا تسلم به لذويها الذين شغلهم فك أسر الأحياء مثلما يفعل العبرانيون معنا، لقد تركتها يا سوار الذهب وتمسك بها غيرك بنواجذه، وتحولوا في لحظات من أصدقاء الأمس إلى أعداء اليوم والعكس، والأمثلة على ذلك كثيرة، فالولايات المتحدة الأمريكية كانت تعد رئيس بنما السابق نوريجيا حليفاً استراتيجياً وتتستر عليه في تجارة المخدرات، وغسيل الأموال وكانت تصرف له المخابرات المركزية الأمريكية راتباً وفجأة اقتحمت القوات الأمريكية بنما وألقت القبض عليه وأودعته أحد سجون ميامي ومثل ذلك حدث مع رئيس الفلبين السابق ماركوس الذي كانت ترعاه الولايات المتحدة ايضاً لتمنع المد الشيوعي في شرق آسيا، وتسترت مقابل ذلك على سرقاته وحساباته السرية في البنوك وشركاته الوهمية وتدمير الفلبين بالقمع والبطش ثم قدمته وزوجته اميلدا إلى محاكمة في الولايات المتحدة الأمريكية التي نفي إليها.
بل إن الدكتاتور تشاوتشيسكو كان قائداً عظيماً في نظرهم على الرغم من القمع والبطش والمشروعات الشخصية التي حولت رومانياً من سلة خبز لاوروبا إلى دولة شعبها ذليل مضطهد فأعدم على يد ثورة الصفصاف بعد يوم واحد من تمثيلية بيعة بوخارست التي جمع لها الشعب الروماني لإعادة انتخابه بالقوة والقى في هذه البيعة خطابه الأخير قائلاً : لن تشهد رومانيا أي إصلاح قبل أن يثمر الصفصاف آجاصاً، ومثله رئيس تشيلي السابق أوجيستو بينوشيه الذي أفضت سياسته إلى اغتيال الآلاف من الشعب على يد الشرطة السرية وتهجير أكثر من مليون شخص خوفاً من القمع والتنكيل، ومن أشهرهم الشاعر التشيلي بابلونيرودا الحاصل على جائزة نوبل للآداب.
نعم لقد ذهبوا إلى النسيان مثلما ذهب الطغاة قبلهم هتلر وستالين وموسوليني والمستبدون جميعاً إلى مزابل التاريخ.
فجزى الله القائمين على هذه الجائزة خير الجزاء حينما أنصفوا رجلاً من ذهب.
الإمارات العربية المتحدة
|