سعادة تحرير جريدة الجزيرة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد اطلعت على ما كتب في الجريدة ليوم السبت 23-12- 1424هـ وما قبله عمّا يسمى بعيد الحب. وإنني أشكر لسعادتكم فتح المجال لنشر كلام أهل العلم وطلبته فيما يتعلق بمثل هذه المواضيع، والتي تمس أفراد المجتمع وتحكي واقعه، إلا أنني لاحظت نشر بعض الآراء والأفكار حول هذا الموضوع مع اختلافها وبعد بعضها عن المنهج الشرعي في تأصيل المسائل والحكم عليها، وعليه فقد كتبت هذه الكلمات آملاً نشرها في جريدتكم العامرة.
إن الله سبحانه وتعالى قد حبانا بدين عظيم، وهدانا إلى صراط مستقيم، فيه الغُنية والكفاية، وبه السعادة والهداية، منه الأمن والسلام، وإليه الحب والوئام، من أقبل عليه اعزه الله بقدر ما تمسك وأخذ، ومن أعرض عنه أذله الله بقدر ما ترك وجحد.
ديننا خير الأديان وافضلها، وأتم الشرائع وأكملها، جمع بين مصالح الأولى والأخرى، اهتم بالروح ولم يغفل الجسد، واهتم بالآخرة ولم يهمل الدنيا، فقال جل وعلا:{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (77) سورة القصص ...فهو دين الوسطية، لا إفراط فيه ولا تفريط، ولا إسراف ولا تقتير، لا غواية فيه ولا رهبانية، ولا غلو ولا تقصير، قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (143) سورة البقرة.
ديننا دين كامل، فلم يمت عليه الصلاة والسلام الا بعد أن بلغ الرسالة وأدى الأمانة، قال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} فالعقيدة والعبادات والمعاملات كاملة، وليست بحاجة إلى اضافة او حذف او تعديل او تبديل.
إذا علم هذا، فكيف بعد ذلك يرضى مسلم لنفسه أن يضيع هذه المكانة التي جعلها الله بين يديه، وكيف يرضى بالهوان والكتاب والسنة نصب عينيه، ام كيف يرضى لنفسه الابية أن تكون مُقادة مُقلِّدة، تتلقف كل ما يرد إليها من غير اهل ملتها، يقول صلى الله عليه وسلم:(لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع) قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال:(فمن) أي من غيرهم.
وفي مجتمعنا المحافظ، نرى الترويج لمناسبة ما اكرهها من مناسبة، سميت بغير اسمها تدليساً وتلبيساً، سميت باسم شريف، لتنطلي الحيلة على السذج والعوام، سميت بعيد الحب، وهو في الحقيقة عيد الخنا والرذيلة والعهر، ينشرون الرذائل في أثواب الفضائل، وهذه سنة شيطانية قديمة، فضحها الله في كتابه، فقال عن مكر إبليس بأبينا آدم وزوجه: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ}.
وللأسف الشديد غرر بكثير من الشباب والفتيات لضعف إيمان بعضهم، وجهل وغفلة الآخرين, ونقص الوعي والتوجيه والارشاد، غرر بهؤلاء فاغتروا، وراحوا يحتفلون بهذه المناسبة تقليداً ومجاراة للغرب. ولا أدري إن كان هؤلاء يعلمون الحكم الشرعي في هذا العمل ام لا؟!.
إن من المقرر عند أهل العلم المعتبرين تحريم الاحتفال بأي مناسبة لم يشرع الإسلام الاحتفال بها، فليس في الإسلام الا عيدان، فحين دخل صلى الله عليه وسلم المدينة، وجد اهلها يلعبون في يومين هما من أعياد الجاهلية، فقال صلى الله عليه وسلم:( إن الله قد أبدلكم بخير منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر). فالأعياد من شعائر الأديان، ومن دان بدين احتفل بأعياده ولم يحتفل بأعياد ما سواه.
ويقول صلى الله عليه وسلم:( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد). إذاً لو كان هذا العيد من ابتداع المسلمين لكان الاحتفال به حراماً، فكيف وهو من ابتداع غير المسلمين، اما يكفي العلماء والدعاة إلى الله أن يحاربوا البدع التي احدثها المسلمون بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم، حتى نشغلهم بالبدع التي احدثها غير المسلمين في اديانهم.
أما إن كان الكلام عن الحب وما يحمله من المعاني السامية، فإن عقد الدين مبني عليه، واساس الإيمان راجع إليه، لا يؤمن احد حتى يحب الله ويحب دينه واحكامه وشريعته، ولا يؤمن احد حتى يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وازواجه واصحابه، لا يؤمن احد حتى يحب لاخيه ما يحب لنفسه من الخير.
إن الحب عند المسلمين له شأن عظيم وشريف، ولقد ضرب قدوتنا وحبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة للحب، فهذه الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما تحكي لنا وفاءه صلى الله عليه وسلم الصادق لخديجة رضي الله عنها فتقول:( ما غرت من امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم ما غرت من خديجة، من كثرة ذكره إياها، وإن كان ليذبح الشاة فيهدي في صديقاتها منها ما يسعهن). هذا هو الحب الراسخ، الذي يدل على صدقه العمل الصالح.
ومن حرصه صلى الله عليه وسلم على هذه المعاني العظيمة، أن دل أمته على ما يحقق لهم الحب فيما بينهم، بل أعظم من ذلك، أن جعل دخول الجنة معلقاً بتحقيق هذه الخصلة الكريمة، فقال صلى الله عليه وسلم ( لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، اولا ادلكم على شيء اذا فعلتموه تحاببتم؟. افشوا السلام بينكم). وفي أحاديث كثيرة يبين صلى الله عليه وسلم حرصه الشديد على إفشاء الحب في المجتمع، ويحث على الأسباب المعينة عليه، ويحذر من كل ما يضعفه او يذهبه.
ثم بعد ذلك كله نرى من يستغل هذا الاسم - اي الحب - بدهاء ويستخدمه بمكر، ويطلقه كذباً وزوراً على العلاقات الغرامية، والاحلام الوهمية بين الشباب والفتيات، التي سرعان ما تتبخر على أرض الواقع، وتخفق في ميدان التجربة.
إننا في زمان انقلبت فيه الموازين، واختلت فيه المقاييس، والتبست فيه الحقائق، وسميت فيه الاشياء بغير اسمائها، فسمي الفسوق والخنا والفجور حباً، وسميت العفة والحياء والحشمة والوفاء، مرضاً، وسميت العلاقة الزوجية الكريمة والحياة الأسرية النبيلة عبئاً وتقييداً, وسمي التخريب وقتل الابرياء جهاداً، كما سمي الجهاد الحق ارهاباً، وسمي الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر اعتداء وتدخلاً في الشؤون الخاصة، وسمي التمسك بالدين وإحياء السنة رجعية وتخلفاً، وسمي تقليد غير المسلمين ومشابهتهم رقياً وتقدماً. وإن ذلك كله لمن علامات الانتكاسة والانحدار.
فالواجب على كل مسلم أن يعتز بدينه، وأن يربأ بنفسه أن تسير على خطى ضالة، او تتأثر بأفكار منحرفة، وأن يلتزم المنهج الشرعي في كل شؤون حياته، وفق ما جاء عن ربه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وهذا ما بينه أهل العلم الموثوق بعلمهم في فتاواهم واحكامهم وبيانهم. جعلنا الله جميعاً من الهداة المهتدين، غير الضالين ولا المضلين.
حفظكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تركي بن عبدالله الشليل
إمام وخطيب جامع علي بن أبي طالب بالرياض |