يشير استقراء بعض المرجعيات المعنية بالفكر والمنطق والفلسفة إلى أن المسلمين على مر العصور قد نظروا للعمليات الفكرية الإنسانية باتجاهات عدة؛ أهمها: اتجاه يرفض الفكر وعلم المنطق ويعدُّهما من وسائل الانحراف، واتجاه يَنْحَى منحى التأثر والقبول غير الملتزم، وآخر يتبنى الموقف النقدي ويتضمن مناقشة الفلسفة وآراء الفلاسفة والرد عليهم، وأخيراً، اتجاه يقوم على تأسيس الفلسفة الإسلامية استناداً الى مرجعيات علمية شرعية مستمدة من أصول الدين الاسلامي. وحيث تتقادم هذه النظرات المتباينات في تاريخ المسلمين للمنتجات الفكرية، فإن المرحلة الراهنة التي يمر بها مجتمعنا السعودي تؤكد أهمية دعم الحركة الفكرية وتشجيعها وفق منظومة اسلامية مجتمعية متعددة الرؤى والأطياف. إن المتأمل في حركة الفكر المعاصر عندنا يلحظ ثمة قلقاً اجتماعياً يضطر بعض الناس تجاهه أن يبدوا نسخاً فكرية متجانسة مع أقرانهم خشية النقد الذي اعتادت المجتمعات المسلمة المتأخرة أن تؤسسه على سوء النوايا. ومن هذا المنطلق، فقد يلجأ البعض الى محاولة نفي التهمة الفكرية عنه ابتداءً، فيوغل في الظهور بالمظهر الاسلامي الشائع في مدينته أو في منطقته (فقط) حتى يُحمد فكره وسلوكه. إن دعم الحركة الفكرية وتشجيعها في المجتمع السعودي المعاصر مطلب مرحلي مهم، ما دام إعمال الفكر يتم وفق منظومة شرعية محكومة بهدي الله تعالى وبسنة نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم. ففيما عدا ما صرَّح الاسلام به من أحكام في العبادات والمعاملات، فقد أعطى الله سبحانه وتعالى للمسلمين مساحة شاسعة لأعمال الفكر من أجل الوصول الى (المعرفة) و(الفهم) وصولاً فكرياً مهتدياً بما شرعه الله مما يصلح العباد والبلاد، ووفق أروع ما أنتجه العقل البشري في التدبر في البحث عن الحقائق؛ حتى لا يكون على قلوبٍ أقفالها، وليتحقق عبر عملية التفكير المطردة صلاح الإسلام لكل زمان ومكان.
ولعل السؤال المهم هنا هو: مَن وراء إقفال أو محاولة إقفال بوابة الفكر عند المسلمين؟ إنني أظن أن مؤسساتٍ كبرى في العالم، إضافة الى نزعات ورغبات أنانية لسياسيين ولعلماء ولمفكرين كثيرين على مر العصور في العالمَيْن الإسلامي والآخر، وراء الدعوة الى إقفال هذا الباب عند المسلمين، سواء كان ذلك من أجل أن يتحقق لغير المسلمين ما تحقق اليوم، ولتهون الأمة على الناس، ولتضعف مركباتها، أم ليتاح لفئة مجتمعية دون أخرى السيادة على الأرض بعد احتكار السيادة على الفكر، وذلك كنتيجة طبيعية لحالة تسود فيها المجتمع الفكرة الواحدة المطلقة في قضايا وموضوعات الأَوْلَى بها أن تكون مجالاً رحباً للحوار والنقاش وإعمال الفكر وفق منظومة شرعية مهتدية. ولعل الأمة المسلمة لم تتحقق لها السيادة الشريفة إلا في العصور التي ازدهر فيها الفكر الاسلامي، وكُرِّم فيها المفكرون في المجتمع وفق مقتضيات ازدهار الفكر المجتمعي القائمة على أن يكون هناك نوع من الصراع الفكري القوي من أجل البحث عن (الأفضل) و(الأصوب) و(الأتم) في دائرة الاسلام، ذلك أن الحقيقة ليست حقاً مطلقاً لأحد ما دامت تُعنى بموضوع وبقضية الأصل فيهما إعمال الفكر. ومن هنا ظهرت مذاهب المسلمين وازدهرت حين كان الفكر الإنساني محركاً رئيساً في فهم النصوص وإسقاطها على واقع الناس، وليس التبعية البشرية الضعيفة والخالية من مركبات العلم والفهم والفكر، والقائمة -فقط- على الانقياد لما كان قد فكَّر فيه السابقون. إن نفي هذه الحال مدعاة إلى تدنِّي قدرة المسلمين على الحوار والطرح والمقارعة بالحجة والبرهان، وإن الفرق الجوهري بين أن يكون المجتمع الاسلامي مجتمعاً (مسلماً) أو (مُؤَسْلماً) يكمن في مدى قدرة أبنائه على الذود عن حياضهم بالحجة البرهان، لا بأن يكون لسان حالهم: إنا هكذا وجدنا آباءنا يفعلون.
* عميد كلية الدعوة والإعلام بجامعة الإمام
|