هكذا هي الدنيا، لا تعطي إلا القليل، ولكنها تأخذ الكثير... لا يبقى من الورد إلا الفتات, ولا من الجمر المتقد إلا الرماد.. ونصل السكين الحاد، بقدر ما هو مفيد هو قاطع وبتار، لا تعرف معنى الأمل، تلك الصبية الجميلة، ولا تلك الطفلة التي تلهو بلعبتها، غير عابئة بمن حولها، ولا ذلك الرضيع الذي أمسك ثدي أمه، بكل قوة وكأنه يخشى انتزاعه، أهو الخوف على من يطعمه، أو التشبث بالحياة ليكبر.. ويرى كم هي الدنيا، فتاة جميلة بيضاء، حورية تلهو بشعرها الأسود، في عتمة الليل، على صفيح ساخن، تتحدى الكل بما تملك، ولكن مجرد الركض وراءها وظهورها في وضح النهار، لا توجد تلك الصبية، بل عجوز سطر الزمن همومه، في تجاعيد وجهها، ونفث الظلم رياحه في صوتها، رداؤها أسود، وشعرها غزل من الألم والعذاب، وكل من يتبعها يضيع في طرقات طويلة، ومظلمة، لا يشعر بالزمن، ولا بمرور السنوات، وأنا التي مشيت خلفها كل تلك الأعوام، لأكتشف كم أنا بلهاء.. نحب من لا نعرف.. ونكره من عرفنا... نجعل من البعض نبراس نور وضياء، والبعض الآخر كهف ظلمة وضياع... ومحونا من قلوبنا كل مشاعرنا، إلا الإخاء، فقد كان زماننا زمن العجائب والغرائب.. وجدنا فيه صندوقا نقلبه بالجهاز، لنرى العالم أجمع في لوحة من زجاج، ومجموعة من الأوراق، تصدر هنا وهناك تحمل لنا الأخبار والأشعار، وفتحنا قلوبنا ليسكنها بعض الكتاب.. أناس لا نعرف من هم وهل هم حقيقة أم خيال؟، ولكننا في زمن نطق فيه الجماد وتلاعب بنا سحرة الأضواء وأصوات الجنان... كنت من الناس الذين سحرهم لون الضياء، وأبحروا في بحر لا نعرف مدى له، أو صدى، أو ضياء، ولكن أبحرنا، كنت أجمع الأوراق لأقرأها، وأضع ذاتي بين السطور، وجعلت من دمي حبراً ليكتب به الشعراء، سكنت دم أحدهم، رأيت روعة الوفاء، معنى الأمل في هذا البحر الهادر غضباً وظلماً، قرأت سطوره وذابت روحي بين أبيات أشعاره، ظللت في وريده، أتغذى أبيات شعره، وهمهمات قلمه، وسكون ذاته، كان عصفوراً مغرداً يحلق في السماء، الكل يراه ولكن لا يشعرون به، هو بين يديهم ولكن بعيد عن قلوبهم، يمدحون صفاته، ويكرهون جسده، أنا وحدي من رأيته، لمست الصدق في عينيه قرأت كفه الذابل، في عتمة ليل تشبه هذه الليلة الباردة، الساكن قمرها صدر السماء.
توقفت عن الكلام، وأخذت تقلب الجرائد بين يديها، لتقرأ لي كلمات ذابت في رجاء، إنني ها هنا فلِمَ لا تسمعين النداء... هذه الغرفة المكسوة بالأزرق، كانت تجمعني بها، تلك الأريكة القابعة في زاوية المكان، كانت محرابها، أجالسها لتمزق كل أوردتي، وتعبث بخلايا جسدي، لتلون الشوق في عينيها، وتكسب الوله، في صدر عاشقة الخيال، هو...هو...هو... كان هذا حديثها، وكنت المستمعة لقصتها المعلقة على جدران غرفتها، كأوراقه التي تحمل توقيعه، أشعار هو كتبها لتلك الحسناء .. خاطرة جالت برأسه عندما طرق باب أهل تلك الفاتنة البلهاء.. كانت تقول، وتحكي، الصدق في صوتها، والفرح يداعب عينيها، واسمه قطعة من السكر تذوب بين شفتيها... لم أعلق، أو أمنعها من الحديث عنه، فشوقها سيل جارف يحطم كل كلمة نصح، تريد الخروج، كيف أبصق الدم في وجهها، بل كيف ألوث نهر الحب الطاهر المتدفق من صدرها، لو أخبرتها أنها تعيش الوهم، وتعشق الخيال ستمطر سماؤها حزناً وألماً، وسيذبل ياسمين عينيه، قالت لي في إحدى لياليها والشوق عنوان لحديثها: أنا لم أحي إلا من أجل عينيه... صدقيني لم أخلق إلا إليه، لأكون غيمة الحب التي تمطره بالحياة، لو نظرت إليه يوماً، وهو مغمض العينين، سأتوه في طرقات الحياة، فعنوان بيتي ساكن عينيه أنا أحبه فهل تشعرين
بهذا الحب .. سكتت عن هذا الحديث عندما وضعت يديها بين يدي، فلمست دفء الأرض، وشعرت بهذا الحب، الذي تخال نفسها ساكنة أهدابه، ولا تعلم أنه ساكنها، ولن يخرج إلا بموتها.... ذلك السرير الأبيض النقي، شهد يوم مدمعها، غسلت أركانه دموعها، وذاب بين طياته، أهات مكبوتة، وأنات مجنونة تعصر قلبها الصغير، وتدمي عقلها العاشق، عندما أحست بوجودي خلفها، صرخت: خطبها.. لقد خطبها، وهي تلك الحمقاء، رفضته، لقد أدمت شريانه، ستظل عينيه تمطر ولهاً وحزناً عليها، لماذا قتلت حلمه، لماذا أدمت قلبه؟؟... أو هذا ما يحزنك؟، هكذا خاطبتها، لترفع رأسها عن الوسادة التي بللها دمعها الطاهر، لتقول قصة يرددها الحي، أنه مريض ولا أمل في شفائه، سيموت حتماً سيموت، فلن يتحمل جسده النحيل، كل تلك العمليات، التي يغسل بها كليتيه، فما من متبرع، ولا أمل في النجاة، قد مزقت كبرياءه، إنها قاسية، آلمت مشاعره، أو مثله يرفض ... ظلت تنوح كحمامة البيت، تقتل صمتها بشهقات كادت توقف قلبها، لا أعلم هل كانت ستفرح، لو وافقت أختها الصغرى عليه... لقد رفضته أختها للمرة الثالثة، وهو معلق قلبه عند باب بيتها، لم يبرح مكانه يكرر النداء، فيرجع له صدى الكلمات، هي لا تريدك هي تريد الحياة لا الموت.. آه يا وردة الحقل، يا نسمة الربيع، يا ورقة التوت البري، لو تعلمين أن خبر حبك، أنا من أسمعته إياه، وأنا من جعلته ينظر إلى دمعك الطاهر، ويرى ليل الأنين، ويسمع بأذنيه ابتهالات الشوق، وقد رأى خيول شوقك الباحثة عن أنفاسه، في حقل عينيك تركض هاربة نحو مرتع النور، أنا من قلت إنها تهواك، حد التوحد والجنون، أنها تكتم الحب الساكن ارتعاشة عينيها، فلترحم أنين ليلها، أرجو أن تلحق ورودها، قبل أن تذبل، وشمسها قبل أن تغرب... فقد جاء للبيت المعلق قلبه عند أجراسه، ليقرعه خاطباً كالسابق، مع تعديل بسيط، فهذه المرة هو يخطب الكبرى، يريد أن يلملم الياسمين المتساقط من عينيك، ويحصد الشوق النابت في مقلتيك، ويركب مهرة الحب الجامحة لنبضاتك، هو يريدك أنت لا هي.. انسكب الفرح من عينيها، وشمخ القلب المتعب، وتعالى الصوت الخافت، الكل ينصحها يحاربون القرح المتدفق في صدرها، لم أكن أعلم أن حبها الصامت، سيقاتل من أجل عينيه، هو سيموت، فلماذا تدفنين شبابك معه، لقد مزقوا أوراقه المعلقة على الحائط، وكتبوا بدمائهم أنه ميت لا محالة... فلم العناد والإصرار، ها هم يطرقون بابي، أنت صديقتها فامنعيها من رمي نفسها في النار.. هل تردين لها الهلاك... إن هلاكها بعدها عنه، وموتها نسيانه، أنه عنوانها، ألا تفهمون!! لقد زفت إليه، ودموع أمها تبلل فستانها الأبيض، وألم والدها على شبابها معلق في عينيه، وهو يمد بكفها الدافىء ليدفئه في عتمة كفيه، والنساء الحاضرات اخترن العويل والبكاء، هي لا تفهم أنها ستصبح أرملة في غضون شهور، بل أيام، مسكين هذا الشباب المتدفق من جسمها، أن يقبر تحت شعار أرملة، ومعها صبيان، أسمع دعواتهم لها... بل عليها، ليتها لا تنجب منه، ليته يموت هذا المساء .... هي لا تشعر بشيء، فقد سرقتها النشوة مني، وأخذت تركض في طرقات الفرح، تبحث عن عنوانها في عينيه، وعن سكنها بين شفتيه، هي له وليست لي.. لم أر الدمع يسكن أحداقها بعد ذلك اليوم، وحتى لحظة ألمه بعد غسل كليتيه، كانت تلعقه فرحة بسلامته، وكأنها تتحدى به أقوالهم، بأنه للتراب وليس لها.. ها هي تلك المرأة، الشاهدة على حبها، كانت تتأمل بها جسدها، الذي وضحت عليه علامات الحمل، وتخبرني بفرحها المعتاد، أنها ستنجب منه صبياً يحمل لون عينيه، الشهر القادم هو شهرها، لذا ستأخذ إجازة من عملها، في تلك القرية النائية لتكون بقربه، فقد كانت تخشى الابتعاد عنه، غداً آخر يوم لها في تلك المدرسة، ولن تعود إليها ستنقل لقرية قريبة خلال شهرين.. تضع المساحيق على وجهها، تخيرني أيها يحب، هو يحبك أنت لا الألوان والعطور من تزينك، بل أنت من يزينها، تودعني وتمضي لتطير لعشها الدافىء، فقد اشتاقت لعصفورها الوحيد، وسحقتها انهار الشوق لدموع قلمه، سيكتب الليلة قصيدته الجديدة، وسأكون ملهمة قلبه هذا المساء، هكذا قالت لي وهي تلملم أوراقها وترحل، وفي الصباح مررنا بها كالعادة، وقد رأيته ينزل معها الدرج، ويسلم على السائق ويفتح لها الباب، فقلت لها ممازحة: لقد صدقت أنك ملهمته بالأمس... لم تعلق وجلست بقربي ضاحكة... وفي السيارة، نام الجميع كالعادة، فالطريق طويل والاستيقاظ أبكر من باكر ممل للغاية... واستيقظ الجميع على صوت ارتطام، زجاج يكسر، ونسوة تصرخ، والخوف سكن الأحداق، وجفت الشفاه المبللة بالحياة، وكنا إلى الموت أقرب، انقلبت بنا السيارة، وخرج من استطاع الخروج، وأنا واحدة منهم، فبحثت عنها عن تلك العاشقة، أو يموت العشق، أو تقتل نبضات الحب، أصرخ بين نوافذ السيارة: رحمة هل تسمعيني؟؟ فجاءني صوتها ضعيف أنا هنا.. الكل يحاول إخراجها، رغم الخوف المسيطر، والدماء النازفة من الجروح، ولكن لا يريد أحد منا نهاية الحب... خرجت متعبة تغطي الدماء نصف جسدها العلوي، أمسح وجهها بيدي، تمتلئ بالدماء، فأدفنها في ردائي الأسود، وأمسح مرة أخرى سمع صوتها هل ولدي بخير؟؟ إن شاء المولى ستكونين بخير... سألت عنه؟؟ هكذا جاءني صوتها ... أحاول إن أطمئن نفسها المتعبة ستكون الأمور على خير ما يرام!! تمسك بيدي أرجوك أخرجيه من أحشائي أريده حياً لا ميتاً, صوتها المتعب يكرر النداء أجيب ستصل سيارة الإسعاف قريباً، أسمعها مرة أخرى أرجوك أخرجيه أريده أن يكون ذكرى له، أردت تقديمه هدية له، فأخرجيه، مزقي أحشائي وأخرجيه أرجوك.. لقد غلبني الدمع فارتميت في حضنها، أبكي حرقة على نهايتها وتمتلئ رئتي برائحة دمها... أسمع نبضاً خفيفاً في صدرها أصرخ بمن حولي: أو تتركونها تموت؟؟ ساعدوني أرجوكم... يأخذها المسعفون من بين يدي ... وتغادر بها تلك السيارة التي تنوح في الطرقات، فيأتيني صوت خافت عبر الهاتف: رحمة ماتت يا دلال.. أختها الصغرى، من خشيت على نفسها الترمل مع الشاعر المعذب تنقل لي خبر وفاتها... هي من ماتت وليس هو.. أبكي أيتها السماء، فلتغسلي أرضك العطشى للدماء لقد ماتت شهيدة الحب... لقد ذبل الياسمين وتفتت غصن الريحان... لقد بكى عليها الشاعر دمعاً وشعراً، شهوراً طالت وقاربت على إكمال السنة، وهو ينزف الحب والاشتياق، ولكنه وهو يبكي حبها وطهرها، والقلب الساكن قبرها، تزوج بأخرى، وأنجب ابنها من غيرها.
|