أعجبني منطق شابٍ ملتزمٍ بدينه، عابدٍ لربه يتعامل مع الناس بخلقٍ حسن، وابتسامةٍ تشرح الصدر مع كونه ذا تجارة ناجحةٍ، وقد كان مجاوراً لي في رحلةٍ جوية من الرياض إلى جدة، أعجبني منطقه حينما قال لي، بعد حوارٍ بيننا: إنني أنظر إلى ضرورة العمل الصالح وأهميته للإنسان من زاويةٍ مهمة، ألا وهي (الخاتمة)، فأنا أدعو ما يدعو كل مسلم ملتزمٍ بدينه دائماً بالثبات على الحق وحسن الختام، وأضع أمام عينيّ دائماً عبارة (إنما الأعمال بخواتيمها)، وأتذكر دائماً وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته ألا ينقطعوا عن سؤال ربهم حسن الختام، ولا أنسى أنه ليس هنالك أحد من البشر ولا من غيرهم من المخلوقات مهما أوتي من العلم يستطيع أن يحدد اللحظة التي سيودع فيها الحياة، ومن أجل ذلك عقدت العزم برغم التقصير على ألا ينقطع عني العمل الطيب، وإذا مالت نفسي إلى الدعة واللهو، وجنحت إلى بعض الملذات أحذرها مباشرة بقولي: (ربما تكون الخاتمة) وهل يرضى الانسان أن يختم حياته بسوء؟
منطق جميل من شابٍ ملتزمٍ بدينه، ناجحٍ في حياته.
قلت له: وأين أوقات عملك؟
قال: العمل في الدنيا إذا أصلح الإنسان نيته، وحفظ أمانته، وراقب ربَّه عبادة قلت له: كيف؟ قال: غاضبت مرة أحد العاملين عندي وقلت له كلاماً شديداً آذاه، وخرج مغضباً، وما إنْ غاب عن مكتبي شخصه حتى قلت لنفسي: (ربما تكون الخاتمة)؟ وانطلقت سريعاً، ولحقت به طالباً منه الرجوع، واعتذرت عما بدر مني من كلام لايليق، وطلبت صفحه عني، فما كان منه إلا أن بكى وهو يقول: أصفح عنك فيما قلت، وأطلبك أن تصفح عني فيما ارتكبت من الخطأ في العمل قلت له: نعم، فصار من أفضل العاملين، إنني بهذا أعبد الله وأنا أؤدي عملي الدنيوي.
قلت لهذا الشباب الرائع إن عتاب العامل على خطئه من باب حفظ أمانة العمل.
قال: نعم ولكن ذلك يمكن أن يحدث دون أن تسمعه كلاماً لايليق.
قلت في نفسي: ما أجمل هذا النموذج من المسلمين!
وخطرت ببالي صورٌ من السيرة النبوية الكريمة تؤكد ما قاله هذا الشاب في موضوع الرفق في الحديث مع المذنب حتى ونحن نعاقبه.
فهذا خالد بن الوليد رضي الله عنه يضرب بعظم كبير كان يُرْجَم، فينضح منه الدم على رداء خالد، فيسبّه، فنبهه الرسول صلى الله عليه وسلم قائلاً:
«لاتسبوا أخاكم»، إنه شرع الإسلام الذي لايحيق عن الحق، فهنالك عقاب للمخالف والمذنب تضبط به أمور الحياة، وهناك شفقة ورحمة، وحفاظ على إنسانية المذنب، لأن الخطأ لايلغي حقوق الإنسان الأخرى.
ربما تكون الخاتمة ذكرتني هذه الجملة البديعة بالقصة التالية:
قصة من السيرة يطرحها أبو هريرة رضي الله عنه على الصحابة رضوان الله عليهم في صورة سؤال قال فيه: حدثوني عن رجلٍ دخل الجنة، لم يُصل قط، فإذا لم يعرفه الناس سألوه، من هو؟، فيقول: أصَيْرم بني عبد الأشهل (عمرو بن ثابت بن وقش)، كان يأبى الإسلام على قومه، فلما كان يوم أحدٍ بدا له فأسلم، ثم أخذ سيفه فغدا، حتى دخل في عرض الناس، فقاتل حتى أثبتته الجراح، قال: فبينما رجال من بني عبد الأشهل يلتمسون قتلاهم في المعركة إذا هم به، فقالوا: والله إن هذا للأصيرم! ماذا جاء به؟ لقد تركناه وإنه لنمكر لهذا الحديث فسألوه: ماذا جاء بك يا عمرو، أحدبٌ على قومك، أم رغبة في الإسلام؟ فقال: بل رغبة في الإسلام آمنت بالله وبرسوله وأسلمت ثم أخذت سيفي، وغدوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلتُ حتى أصابني ما أصابني، فما لبث أن مات، فأخبرهم الرسول عليه الصلاة والسلام إنه من أهل الجنة.
إشارة:
ربح الذي فينا ينزه قوله
عن كل قولٍ ساقطٍ متهلهلٍ |
|