خلال مسيرة الإصلاح التي تشهدها بلادنا، أصبح المجال مفتوحاً لتناول إعلامي وثقافي واجتماعي أوسع وأرحب عن ذي قبل، متضمناً ترسيخ الحوار الفكري وتقبُّل التعددية واحترام الآخر المختلف وفتح باب النقاش لأزمات ومواضيع كان يصعب المساس بها.ولكن المكاشفة والشفافية لا تزالان عموميتين وأحياناً ضبابيتين وربما بطيئتين في وسائل إعلامنا ومراكزنا الثقافية، لأنهما لم تدخلا في تفاصيل في غاية الأهمية.والحجة التي تساق للتقليل من اندفاعية المكاشفة تستند على مسوغات لها ما يبررها، كما أن الحجة المقابلة لها أيضاً ما يبررها مع تفنيدها لحجج إبطاء المكاشفة وتقليص الشفافية.
يواجه الكاتب والمهتم بالقضايا العامة تحدياً كبيراً يتمثل في عدم كفاية المساحة المباحة له في وسائل الإعلام. فمن يناقش تفاصيل القضايا العشائرية وعلاقتها مع المدنية، نخشى إثارته للنعرات القبلية، ومن يدرس الحالات
الطائفية نتخوف من إيقاظه للفتنة. ومن يحلل الفروقات الحضارية والتاريخية بين مجتمعات المناطق نخشى عنصريته. ومن يكتب عن حقوق المرأة ووضعها السيئ في المجتمع التقليدي وينتقد سلوكياتنا قد نرميه بالانحراف. ومن يطرح قضايا حقوق الإنسان وتفصيلاتها المدنية قد يتهم بالتغريب. ومن ينتقد فكراً عفا عليه الزمن قد يتهم بالهرطقة. ومن يطرح تصوراً سياسياً مخالفاً في قضايانا القومية تلصق به تهم الخيانة أو العمالة..الخ. إذن، ماذا بقي للمصلح، وللباحث العلمي، وللمفكر التنويري، وللكاتب الحُرّ، غير مجاملات عنا.. أو في أحسن الأحوال نقد ذاتي عام لا يقول كثيراً؟
هناك خشية من أن الاندفاع والمبالغة في الجرأة في كشف الاختلافات قد يؤديان إلى تأجيج الموقف وتهديد الاستقرار الاجتماعي، وليس إلى إصلاحه وتطويره. هذه الحجة التي تخشى التأثير السلبي للكشف السريع لما تحت الغطاء يمكن تفنيدها عبر زوايا عدة:
أولاً: حرية التعبير المسؤولة واللامسؤولة متوفرة بكثرة مواقع الإنترنت،ونجد
فيها من الصحيح والعليل ومن الجيد والرديء الشيء الكثير. ومستخدمو الإنترنت سيصل عددهم في المملكة إلى نحو أربعة ملايين ونصف مليون نسمة في العام القادم (نشرة مدار)، أي أكثر من نصف عدد البالغين في بلادنا، فإذا لم يسمح بالمكاشفة السريعة في وسائل إعلامنا الرصينة وما يصاحبها من حرية تعبير محترمة ومستوى ثقافي راق، فإن التأثير السلبي للحرية الإنترنتية العشوائية التي نخشاها لن تجد منافساً عاقلاً لها، وستتداولها فئات ضخمة من الشباب. ولا ننس أيضاً، ما تقوم به الفضائيات من طرح صنوف من المكاشفات والحوارات والتحليلات مختلط غثها بسمينها، فإذا تحفَّظنا على مواضيع بعينها تطرحها تلك الفضائيات دون أن يكون لنا سوى الردود الانفعالية على ما تطرحه، نكون مرهونين بطروحاتها، ناهيك عن القيود التي نفرضها على أنفسنا وتفلت منها تلك الفضائيات، فيلتفت الناس لوضوح تلك الفضائيات وإثارتها ويدعوننا مع ضبابيتنا ورتابة طرحنا.
ثانياً: الافتراض بعدم وجود التجاوزات خلال مرحلة الشفافية هو افتراض مثالي يتنافى مع مهمة المكاشفة الواقعية، بل والإصلاح برمته، التي من إحدى
مهامها السماح للخطأ بالتعبير عن نفسه معرفياً لتفكيكه فكرياً أو تلقيحه بأفكار سمحة مضيئة، عبر محاورته بالكلمة وبالإجراء السلمي، خير من أن ينزوي في ركن مظلم ويفرخ أفكاراً متطرفة تقود إلى مناخ إقصائي غير صحي.
ثالثاً،: أثبتت السنون الأخيرة وما جرى فيها من أحداث، أن أسلوب التحفظ وعدم مناقشة الأزمات وحجب الاختلافات مع هيمنة شريحة ثقافية معينة أو طيف فكري واحد..الخ، كلها كانت من عوامل عديدة هيأت المناخ لصنوف الغلو والتعصب وما بعثته من عنف وإرهاب. ثمة أزمات لا بد من كشفها ومناقشتها وتحليلها، فمن الحوار المكشوف ينبثق النور ويبصر كل طرف جوانب كانت معتمة فيتفهم وجهة نظر الآخر وينمو التسامح.. وتغدو ثقافة الاختلاف مرتعاً لحالة التآلف بين تيارات المجتمع.. مع محافظة كل تيار على قناعاته وأطروحاته. هناك الدعاة والمفكرون الذين ينادون بالتثاقف الفكري وهم غير مستعدين لإصلاح علاقتهم الحوارية
مع المخالفين أو التسامح مع آرائهم أو الانفتاح على النقد الموجه لهم.. ويطالبون بحرية الرأي كمتنفس لهم وحدهم.. وثمة القيادي أو المدير العام الذي يلحُّ على طلب الإصلاح الإداري ويحرم موظفيه من ممارسة صلاحياتهم.. وهناك الموظف العادي الذي يطالب بإصلاح إداري وسياسي ولكنه يرفض إصلاحاً يؤثر على نمطه التقليدي من تمايز قبلي أو مناطقي أو طائفي أو ذكوري...الخ. وثمة ذو الدخل المحدود الذي ينشد الإصلاح الاقتصادي ولكنه غير مستعد لإصلاح اجتماعي يعطي زوجته وأبناءه حقوقهم.. وثمة المرأة التي تطالب بحقوقها وإصلاح أوضاعها وهي غير مستعدة لإعطاء الخادمة أو حتى بناتها جزءاً يسيراً من تلك الحقوق. كم نسبتنا في المجتمع نحن أفراداً أو جماعات الذين نطالب بكل أنواع الإصلاح ما عدا تلك التي تؤثر على مصالحنا أو قناعاتنا أو عاداتنا أو أنماطنا السلوكية؟ أظن أنها نسبة عالية جداً، لأن مفهوم الإصلاح لم يطرح بشفافية ووضوح.. ولأن المكاشفة الحقيقية لم تبدأ بعد.. كلٌّ يرى أن الإصلاح هو تغيّر من الآخر لصالحه.. بينما الإصلاح عمل شامل يعني تغيير الجميع..وهذه لن تدرك دون كشف حاجات وقناعات الجميع..
الإصلاح يعني ضمنياً أن هناك خللاً ينبغي علاجه، والمعالجة تستلزم التشخيص، الذي بدوره يستلزم البحث والمراجعة في كل الفروع
والتفاصيل، ناهيك عن الأصول.. وذلك لن يكتب له النجاح دون مكاشفة وشفافية ونقد ذاتي. أما الالتفاف على النفس بكل عللها والادعاء بأننا مجتمع لا يُشك في طهرانيته وكماله فهو وهْمٌ لم يحدث قط لمجتمع في التاريخ.الانغلاق على الذات وتمجيدها مقابل رفض تجارب الآخرين أو الاكتفاء بشتم التحديث أو الحداثة أو الانفتاح أو العولمة أو الغرب دون إيجاد حلٍّ واقعي بديل هو إرضاء سلبي للذات. بلا مكاشفة يغدو الإصلاح كلمة جميلة ترمى في الهواء.. لأننا لن نتعرف على معناه الواقعي ومتطلباته التطبيقية في داخل حياتنا.. فهناك ثمن للإصلاح وشروط.. وينبغي التهيؤ لفهم مضامينه.. فبدون مكاشفة سنظل راغبين أن يأتي الإصلاح من حولنا ولكن ليس من بيننا.. ليس من داخلنا..
|