كان الحديث في الحلقة السابقة عن المعنى المراد في صدر بيت من أبيات الأنشودة الوحدوية المشهورة، وهو: (ومن نجدٍ إلى يمن) في مقطع:
بلاد العُرْب أوطاني
من الشام لبغداد
ومن نجدٍ إلى يمنٍ
إلى مصر فتطوان |
واستهلالاً بهذه الحلقة يبدأ الحديث عن المدلول الحسِّي لذلك الصدر من بيت الأنشودة المشار إليها، وإن لم يكن المدلول المعنوي غائباً عن الذهن بطبيعة الحال.
كانت اليمن المكوّنة جزءاً مهماً من الجزيرة العربية مرتسمة في مخيّلتي، مهدَ حضارة أصيلة قرأت عن عظمتها ما قرأت، ومحلَّ إعجاب بطبيعتها، جبالاً وسهولا وسواحل، وشاهدت منها - من خلال ما صُوِّر منها - ما شاهدت، ونهرَ إبداع شعري متدفِّق ارتشفت من عذوبته ما ارتشفت، وإن كان ما قرأت عن تلك الحضارة، وشاهدت من صور تلك الطبيعة، وارتشفت من ذلك النهر المتدفِّق إبداعاً قليل القليل.
وكنت أتطلَّع إلى اليوم الذي تتحقَّق فيه لي زيارتي ذلك الجزء العزيز من الوطن العربي، فأرى عياناً معالم حضارته الأصيلة، ومظاهر طبيعته الجميلة، وأجتمع بمن ييسِّر الله لي الاجتماع بهم من مفكريها ومبدعيها.
وكم كانت سعادتي عظيمة، وفرحتي غامرة، عندما حان موعد تحقُّق الزيارة التي كنت أتطلَّع إلى تحقُّقها، فقد تلقيت دعوة كريمة شخصية من السيد محمد الطيب، رئيس لجنة حقوق الإنسان في مجلس الشورى اليمني، بالتنسيق مع رئيس منظمة (لا سلام بدون عدالة) الأوروبية لحضور مؤتمر صنعاء حول الديمقراطية وحقوق الإنسان ودور محكمة الجنايات الدولية، وكانت هذه هي المرة الأولى التي أزور فيها اليمن، والمرة الأولى التي أحضر فيها مؤتمراً دولياً له مثل طبيعة هذا المؤتمر، فباستثناء حضوري مؤتمري مؤسسة الفكر العربي في القاهرة وبيروت - وفيهما من الحديث عن الشؤون العامة ما فيهما - كان حضوري، عادة، لمؤتمرات ذات تخصص علمي بحثي، تاريخاً أو لغة عربية.
في عصر يوم الثلاثاء الرابع عشر من ذي القعدة، 1424ه خطت قدمي أولى خطواتها في مسيرة الرحلة إلى اليمن انطلاقاً من مطار الملك خالد الدولي في الرياض العامرة، وذلك عندما دلفت إلى داخل طائرة الخطوط اليمنية، وكنت سعيداً برفقة أخوين كريمين هما الدكتور راشد المبارك والدكتور عزالدين موسى، اللذين زادا متعتي بالسفر إيناساً وبهجة، ولم تمض ساعتان إلا وقد رست تلك الطائرة بالسلامة على مدرج مطار صنعاء، ولم يكن الاستقبال إلا كما كان متوقعاً، حفاوةً وإكراماً، وبعد استراحة لطيفة في صالة الاستقبال، التي كانت مليئة بأعضاء وفود من بلدان مختلفة، مضت بنا السيارة إلى فندق شيراتون، الذي لم يكن مختلفاً عن كثير من فنادق هذه الشركة في مدن العالم، إمكانات وخدمة.
وما كان المساء الأول في صنعاء إلا للراحة، وفي صباح اليوم التالي كان شوق الدكتور عزالدين موسى، كما كان شوقي، إلى رؤية زميلنا الدكتور يوسف عبدالله، وكيل وزارة الثقافة للآثار، الأستاذ في جامعة صنعاء، مشجعاً لنا للاتصال به، فذهبنا إليه، وكان من لطفه أن اصطحبنا إلى دار الآثار، وأطلعنا على ما فيها من مخطوطات قديمة مكتوبة على أنواع من الرق للقرآن الكريم، كما أطلعنا على كيفية ترميم المخطوطات وحمايتها من التلف.
على أن كل ركن من أركان العاصمة اليمنية القديمة مشتمل على شاهد دال على أصالة حضارتها عبر القرون، فهنا قصر غمدان الشهير، الذي تعاقب على سكناه ملوكها قبل الإسلام، وهناك الجامع الكبير، الذي أسس في العهد النبوي، وأصبح - إضافة إلى كونه مكان عبادة - أشبه ما يكون بجامعة تدرَّس فيها علوم مختلفة، وهذه بقايا سورها، الذي بني في العهد الأيوبي، وهذا باب اليمن الباقي من أبوابها الأربعة، وهي - إضافة إليه - باب شعوب، وباب السبحة وباب ستران.وبعد تلك الزيارة المفيدة التي غمرنا خلالها الدكتور يوسف بلطفه، وأغدق علينا من فيض علمه الغزير ما أغدق، ذهبنا إلى كلية الآداب في جامعة صنعاء، وهناك التقينا ببعض الزملاء، فسعدنا بتجديد اللقاء بمن كنا نعرفهم، وبمعرفة من لم نكن نعرفهم من قبل، ومما لفت نظري أنني لم أر إلا ثلاث طالبات سافرات الوجوه - وإن سترن شعرهن - في تلك الكلية، أما باقي الطالبات فمتنقبات، ومن يتجوَّل في شوارع صنعاء يجد وضع النساء في شوارعها وأسواقها لا يختلف عن وضع طالبات كلية الآداب من حيث الحجاب، فالنقاب هو الصفة السائدة لدى تلك النساء اليمنيات.
ولم يكن لطف الدكتور يوسف ليقف عند حدِّ ما قام به في دار الآثار من ترحاب وإغداق علم، وإنما زاد على ذلك بتكرُّمه بأخذنا إلى غداء في مطعم شعبي راقٍ كل ما يُقدَّم فيه من أنواع الطعام، حنيذ ضأن صغير السن أو سمك أو غيرهما، طريٌّ شهيٌّ يصعب على متناوله أن يترك لشرابه أو نَفَسه ما ينبغي أن يتركه. ووجبة مثل تلك الوجبة الطرَّية الشهيَّة لم يعد هناك مفرٌّ بعدها من قيلولة مناسبة، فكان أن تمَّت تلك القيلولة بسلام واطمئنان.
وفي مساء ذلك اليوم كانت هناك خطوة بلقاء ممتع حافل بنقاش فكري متشعِّب الوجوه، متنوّع الرؤى، في منزل الجواد عبدالحميد الحدِّي، وكان الضيوف فيه من اليمن نفسها ومن بلدان عربية مختلفة، وكان عالم الشريعة إلى جانب رجل السياسة، وهذا بجوار الشاعر والأديب، والكل منسجم غاية الانسجام مع ذلك التشعُّب الفكري، والتنوُّع في الرؤى، وكان حظ أخي وزميلي، الدكتور عزالدين موسى، أكبر من حظِّي - وكثيراً ما كان كذلك - إذ سبقني إلى ذلك اللقاء بساعتين، فأدرك الجزء الأكبر من زمنه، الذي بدأ - كما كان معتاداً - من الساعة الثالثة ظهراً، ومودَّته لي، أو (بميانته)عليَّ، أو بهما معاً، أخبر المضيف الجواد وضيوفه الكرام قبل وصولي إليهم أني أكتب الشعر، فكانت مفاجأة لي عندما طلبوا مني أن ألقي عليهم شيئاً مما كتبته، ولم يكن لي إلا أن ألبي الطلب سعيداً.
وكان اليوم الثالث من وصولي إلى اليمن حافلاً بالنشاط بالنسبة لي شخصياً، ففي صباحه كنت على موعد مع مؤسسة الإبداع للثقافة والآداب والفنون، التي أسسها، عام 1995م، الأخ الكريم الدكتور عبدالولي الشميري، مندوب اليمن الدائم لدى الجامعة العربية،.
وإني لعلى موعد مع القارئ الكريم في الأسبوع القادم، لأحدِّثه عما تمَّ نتيجة موعدي مع تلك المؤسسة، إن شاء الله.
|