مسار أي معاملة في النظام الإداري يمثل رسالة متحركة تبدأ انطلاقتها من أصغر موقع في الإدارة التربوية، وقد تنتهي خارج أروقة تلك الإدارة. هذه الرسالة اياً كان مجالها يفترض أن يكون لها أغراض وأهداف محددة، فهي تنشأ عادة لتنفيذ مشروع مقترح، أو لعلاج مشكلة طارئة أو مستديمة، أو للإجابة على تساؤل ضروري أو لاستكمال واجب مطلوب.
كما أن لهذه الرسالة مساراً خاصاً بها، حيث تمر بمرحلة التوجيه ورسم المسار لتنتهي بحالة التوثيق بعد الاستجابة للأوامر التي تتضمنها، لكنها قد تتعثر في توجهها عند بعض المواقع أو قد تركن عند محطة توجيه، تبعاً لأمور عدة منها: قناعة المسؤول صاحب القرار في أهمية وجدوى تلك الرسالة، ومدى فهمه واستيعابه لأغراضها، وعدم موافقتها لتوجهه، ولطبيعة العلاقة بين ذلك المسؤول وصاحب الفكرة أو المشروع المقترح.
إن بعضاً من المعاملات المحررة تضمر أهدافها وتتعثر في مسارها لأن صاحب القرار الإداري يخشى من نتائجها على مركزه، أو أنها تكشف مواطن زلل في إدارته، أو أنها تفوق قدرات هذا المدير واستقراءاته، أو لأنها تتطلب إجابة على تساؤلات غير جاهزة، والإدارة التربوية المثلى هي التي تبدد تلك المخاوف والأوهام وتتغلب على تلك الصعوبات من خلال الشفافية والمكاشفة والرغبة في الوقوف على حقيقة الأمر وفتح باب التشاور، والالتزام بقانون المحاسبة.
وفي جانب آخر نجد أن مستوى الإنتاجية يتكامل مع القدرة على فهم وتحقيق الأهداف الأساسية من مهام الإدارة التربوية وهذا ما يحدد الفارق في مستوى الإنتاجية بين الإدارات التربوية.
إن الرؤية الساذجة في تحديد قوة وفاعلية الإدارة التربوية لدى البعض تقوم على حجم البهرجة التي يشكلها أسلوب الإدارة من خلال الديكورات البراقة والمناظر الزاهية وفي مقدار المناسبات الإعلامية الهامشية التي تنفذها الإدارات التربوية، ويخفى عند القياس والتقييم الصادق احتساب حجم العائد المأمول من الغايات والأهداف التربوية التي تلامس عقول المتعلمين وسلوكياتهم.
يقول أحد كتاب التربية (إن الشيء المثالي بالنسبة إلى تعليم نافع هو التوصل إلى منهج يضمن أقصى مردودية بأقل ما يمكن من الجهود والوسائل) وبعض الإدارات التربوية - وإن قلت بحمد الله تلك الصورة - تسير خلاف هذا المنطق حيث تبدد الجهود والوسائل وتبتعد عن تحقيق التميز في الأداء، فالكوادر التي توفرها الوزارة والإمكانات التي تبذلها لا تحقق عائداً محموداً في تلك الإدارات بقدر ما تشكل بطالات مقنعة داخل النظام الإداري فيها وتضيق بها الأماكن وتشكل فائضاً أو رجيعاً في تأثيث تلك الإدارات ولا توجه إلى مواقع الإنتاج.
إن تحديث الإدارات التربوية وتسييرها وفق المأمول سيقضي قطعاً على الترهل في نظام العمل، وسيرفع من كفاءة الإنتاج ويوفر الموارد والإمكانيات، ويحول دون البطالة المقنعة والتسيب والتجاوزات في العمل.
وسبل تحقق ذلك يتم من خلال هدم سور المركزية والتسلط الذي عفا عليه الزمن، وإذابة ظاهرة الخوف والتشكك، وفتح المجال أمام الخبرات، واستحضار قانون الجدوى مع كل خطة أو مشروع يقترح، وتصحيح المفاهيم عند صاحب القرار، والبعد عن الدعايات البراقة الجوفاء التي لا تحقق سوى ضياع الوقت والإمكانيات، ولنأخذ حالة للتدليل، فالبرامج الإثرائية التي تصاحب الخطة التربوية -على سبيل المثال- إما أن تكون ذات عائد استثماري للمتعلم ومطلباً نموذجيا إذا صيغت ونفذت وفق المناهج الصحيحة وحددت لها المفاهيم ودلالاتها ورسم لها برنامج إعداد وتنفيذ، أو أنها تستهلك الجهد والوقت وتصبح عبئاً على المتعلم إذا صيغت ونفذت بطريقة عشوائية، وحال دون تصحيح مسار أخطائها التستر ورفض نقد وتوجيه أهل الاختصاص، وقس على ذلك.
بقي أن نشير إلى نقطة هامة ترتبط بمخرجات التعليم ألا وهي تهيئة منسوبي المنطقة التعليمية من موظفين ومعلمين ومتعلمين لمواجهة التحديات والصعوبات، والتعامل مع طبيعة ومتغيرات العصر بكل ثقة واقتدار خاصة في وقتنا الراهن المشحون بالوقائع والأحداث بحيث نعزز من مبدأ الانتماء ونحقق أسلوب الفهم والتطبيق الواعي لكل التوجيهات الصائبة للحياة الاجتماعية والفكرية. ومن سبل تحقيق ذلك الالتزام بمنهج المصداقية الممزوجة بالشفافية واحترام الآخر والعدل في القرارات وتوظيف كافة أنماط التقنية بأسلوب هادف وعادل ومدروس مع التأكيد على أن الوقوف على أرضية العمل المنجز منذ البدء يعطي تصوراً واضحاً في حجم المنجز ومستوى التغيير وسهولة في القياس ومؤشراته.
إننا إذ نحمد الله على المستوى الرفيع الذي حققه التعليم في بلادنا فإننا نطمع في تبوؤ موقع الريادة والتميز ولا يتحقق الوصول إلى ذلك إلا من خلال النقد الهادف وتسليط الضوء على جوانب النقص وبعض الممارسات الخاطئة التي ستكون موضوع المقالات القادمة بإذن الله.
أخيراً أرغب في التنويه على أن نشر المقالات الثلاث السابقة جاء بطريقة غير متتابعة في الترتيب. ولعل السبب في ذلك أنني لم أقم بترقيمها.
|