ما كنت لأدلف في ذلك الزقاق المؤدي إلى حارة التنك، حتى لمحتها بثوبها الريفي الجميل وشالها المميز، بزركشات ملونة من ألوان الفرات.
.. مشيت خلفها بخطوات ثقيلة متزنة.. كانت نقرات حذائها المتآكل توقع على بلاط الزقاق بشيء من الوجع الخفي، حتى طريقة مد خطواتها مختلفة عن أهل المدينة، شيء ما بدأ يلح علي لمعرفتها أكثر، لا بد ان أكون غير مخطئ هذه المرة إنها هي بدون شك... بثوبها.. بهيئتها البسيطة، بكل شيء أعرفه عنها.
... أيها المسافرة أبداً في سماء الذاكرة.. إليك انكسر قلبي، فلِمَ كان وصولك مثل الصاعقة، اليوم حينما اتصل بي ياسر وحدثني عن القرية بعد طول انقطاع، أدركت تماماً أنك ستصلين إلى هنا إنها كما لم تفعلها من قبل... لقد سلمت مفاتيح حصونها لك، هكذا بدون أدنى مقاومة.
.. ترى هل تصورت إلى مدى سأصل في احتراقي؟، لم أكن أتصور حضورك سيكون بدقة هذه التفاصيل الريفية وسط مدينة متدفقة بالبشر حتى البكاء المحموم، أكنت ستصلين بكل هذا الألم، وبكل قلق الريف المتشح بالبراءة لو لم تكوني امرأة من ماء الفرات.
.. لقد فقدت ذاكرتي وظيفتها لأنها لم تستطع استيعاب فضاء حضورك الخصب، لذا ها أنذا أترك كل شيء خلفي يطاردني وآتي إلى نقطة مجهولة من هذا العالم لمجرد أنني أتصور حضورك فيها، لم تلتفت إليّ عندما أصبحت محاذياً لها، إحساس ما، حاد كما الموت بدأ يعصف بي، حينما تمعنت بدهشة في انسياب وجهها الفضي الدافئ ورموشها السوداء الطويلة على أن طولها الفارع كعود الزل على صفحة مياه الفرات، قطع شكي بأنها هي تماماً، أما الوجه فقد لوحته الشمس فبدا غامضاً ومجبولاً بالزعتر والحنطة.
.. بدا الجو قائظاً وشديد الحرارة في منتصف ذلك النهار ,لم تكن هذه المرة مجرد وهم أعانيه ككل الأيام التي أسير وحدي في شوارع المدينة المزدحمة، أبحث عنها، أو حتى عن أي شيء يمكن أن ينسيني وجهها الحزين المنساب في ذاكرتي كما المطر.
في السنين الماضية فتشت عنها في كل شيء من حولي، لاحقت آلاف أشباه الأخيلة، غير أنني كنت في نهاية كل ذلك أعود بلا أدنى حقيقة عنها.. وصلت حتى الجنون والهلوسة، ولكثرة ما توهمت عنها أصبحت أشك في أنني أملك ذلك الماضي معها.
.. ثلاث سنوات أو أربع مقابل نظرة واحدة يا امرأة يتجلى الكبرياء من عينيها كأمجاد العظماء، لقد كنت أنتظرك منذ آلاف السنين، وعندما التقتك نظراتي بيأس، تلاشيت، تركت في نفسي حزناً لا يمكن ان ينتهي أبداً، وأنا أفكر، أحلم، وأتأمل كالأخرس ببلادة عندما تخترقني نظراتك من خلف ذلك الماضي البعيد، تأتيني حزينة كتعبي الشرقي المهموم.
.. أتوقف قليلاً لأسرق شيئاً من حنين الفرات الماضي في ذاكرتي كوقع السهام، لأستعيده، وأي ماض إنها هي كله.. أأكون كالذي ما عرف ذلك الماضي، ولا حتى عاش في قرية على أطراف الفرات هنالك حيث كل سنة يفيض الفرات على أطراف قريتنا.. نخرج على إثر ذلك محملين بأمتعتنا التي أصابتها المياه, ونرمي بها على التلال المواجهة للنهر، ندب على الأرض الموحلة كأسراب النمل بلا كلل.. كانت معي آنذاك شامخة مثل زيزفونة في ربيعها الأول، مع ذلك كانوا يحملونها شيئاً ما، تركض به بفرح طفولي لتلحقني ثم تدعي أنها تعبت ترميه فوق ما أحمل ونسير معا لا نعرف ما يثلج قلبينا سوى ابتسامات كبيرة كالندى، نود أن نكون أكثر نشاطاً من غيرنا.. لذا نذهب إلى أبعد نقطة حيث الصخور ناتئة وأشواك بدت غضة في أول ظهورها.
في أول ربيعها بدت أكثر نضارة من ذي قبل، فأحسست بكثافة روحي تحترق لها، كان ذلك الشتاء أكثر رعونة من سواه فبقينا على التلال المجاورة للنهر عدة أيام في الخيام المعدة لمثل هذه المفاجآت.
ولحسن حظي فلقد شجت خيمتنا إلى خيمتهم، في ذلك الصباح الضبابي البلوري المغبش. خرجت إلى حيث أتوقعها دائماً تجلس فوجدتها تحدق في نقطة مجهولة في الفراغ، في تلك اللحظة المكثفة بالرحيل الكبير وجدت نفسي في قاع ضياعها بيأس مميت.
قالت وهي تسرح النظر بعيداً في عمق الضباب المنسدل فوق النهر:
- إنني حزينة ومخنوقة لأنك ستتركني وترحل إلى المدينة.
- قلت لها بحماس منقطع النظير:
بل ستعيشين في كل خلية من خلايا جسدي.. متدفقة بقوة في فضاء روحي وهل ستنسيني المدينة الأرض التي ولدت بها انها ذاكرتي كلها.
في تلك اللحظة المكثفة بالموت والحنين أدركت تماماً مدى يباسها وشوقها المعتق بمياه الفرات لذاكرتنا المحترقة معا.
وعندما انتقلتُ إلى المدينة مع أهلي، بدأت رحلة البحث عنها في كل الوجوه التي تشبهها.. وأنا أتذكر.. أحلم وأفتش بشوق طافر وأحمل وجهها في ذاكرتي المشوهة بشيء من الوجع، أعود دائماً بدون وجهها.
.. وعندما برزت بكل هذا التوهج في يقيني اغتالني صمتك القادم فاعذريني قليلاً لِمَ تجرأتُ وعاتبتُ صمتكِ هذا بشيء من الطفولة الساذجة (لماذا لا تقفين بشجاعة وتقولين أكرهك.. أمقتك لأنك تأخرت في العثور على امرأة احترقت آلاف المرات لأجلك..). .. أيستطيع أن يحررني حضورك هذا من وجعي الفراتي بكل تجليات تلك اللحظة الأخيرة التي احتوتنا معاً.. ماكان ليدخل أدنى شك بك الآن، هذا الوجوم المحير.
فابتسمت لها ابتسامة غامضة.. تجاوب معي صمتها الحزين.. حتى صمتها المجبول بالأرق واللذة لم يغب عن بالي كل تلك السنين.
جحظت عيناها باستغراب لتصرّفي هذا، كأنها لم ترني من قبل، هزت كتفيها بدهشة نزقة، ثم مضت خطواتها الريفية بقلق مهموم وتركتني وحيداً وسط الزقاق أحدق بذهول في ذوبانها بالمدينة.
|