Friday 13th February,200411460العددالجمعة 22 ,ذو الحجة 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

«ليلى» «ليلى»
قصة قصيرة
ياسر عبدالباقي- عدن

استوقفني فجأة في الشارع، حدّق إليّ بعينين باردتين، وقال ببرودة أكثر: أعرف بما تفكر! لكني تابعت طريقي دون اهتمام، لم أشأ أن أرفع رأسي لأستمع إليه، وكانت خطاي تجرني، أضاف الرجل - وإن تركني أخطو خطوات بعيدة عنه-: الانتحار. كانت كلمة الانتحار توشك أن تفتت طبلتي، كان ظهري في اتجاهه، وذقني مازال متدليا على صدري، قدماي قد توقفتا، لكن ذهني مازال يعمل، لا أحد يعلم ما أنوي عمله، هذا اليوم لم يكن يوماً عادياً، منذ ان استلمت الرسالة الكريهة صباحاً، أيقنت أن حياتي قد انتهت، حياتي كانت معلقة بهذه الرسالة ناولني ساعي البريد الرسالة وهو غير مصدق، مسكين! لا يعلم أن الرسالة الأولى التي استلمتها منه تعني الموت، وضعتها على الرف دون أن أفتحها، جلست في ركن الغرفة، ركبتاي على صدري لويت ذراعي حولهما بقوة آملة درء ضربات قلبي المتأججة، أطلقت لعيني حرية النظر إلى الرف حيث بدأت الرسالة تهتز رويداً رويداً من تيارات هواء المروحة، لم أعرف كم من الساعات مضت وأنا في هذه الحالة، محشور في زاوية الغرفة، خائف من رسالة لم أقرأها بعد، واصلت طريقي، اعتقدت أني أحلم، وأن كلمة الانتحار من نسيج خيالي لكن نفس الصوت ردد: انتظر!. استدرت نحوه، رفعت أهدابي إلى أعلى حتى أراه، قال وخطواته ثقيلة ككلماته: هيه!"العالم لا يتسع لنا!!. رفعت رأسي قليلاً عن صدري، العالم لا يتسع لنا، استهوت انتباهي واقترب جفف عرقه بمنديله، لكنه لم يستطع أن يمسح رائحته، ابتسم نصف ابتسامة، والنصف الآخر لعق ركن شفتيه بلسانه، وقال: أعرف !. سحبت شفتاي إلى الداخل، كنت متوتراً، قلقاً، أربكني شكله، أخافتني كلماته، سألت: ماذا؟! عادت الابتسامة الباهتة وصوته البارد: تود الانتحار. صرخت لكن الصرخة خفيفة، مرتبكة: أنت مجنون، مازلت متعلقاً بهذه الحياة. أوقفني الرجل قائلاً قبل أن أستدير: أنا ذاهب معك. - إلى أين؟! - للانتحار. هوت الرسالة إلى سريري وكأنه العالم كله هوى على رأسي، أطفأت المروحة، أغلقت نافذة غرفتي لامنع الريح من التطفل، أمسكت ظرف الرسالة من زاويتها، استمر قلبي في لكم صدري بكل قواه كلما أمعنت النظر إليها واسمي وعنواني مكتوبان بخط رديء مشوش، رميت الرسالة على السرير، وجلست لأبكي. سرنا معاً كصديقين، الليل في الثلث الأخير، الظلام في رداء أسود، الطريق مقفر سوى من بعض الأحجار الملساء، رائحة البحر طغت على رائحته الكريهة، صوت القواقع من تحتنا تتكسر، الهدير يصطدم في الصخور ليبلع البحر صداه، يكسر الرجل الصمت الإنساني يسألني عن سبب الانتحار. استعملت الوسادة كمنشفة لأمسح بها دموعي، تركت رأسي يهوي إلى الخلف، تسمرت عيناي إلى السقف. إذ كانت المروحة واقفة بأجنحتها، تمنيت أن تسقط لتحطم عنقي، أغمضت عيني وتخيلتها تسقط، عدت لأحدق بالرسالة، أمسكت البطانية بأطراف أصابعي وشددتها، فمالت كلها نحوي، فتسقط على حجري وكذلك الرسالة، أمسكتها وضممتها إلى صدري وعدت لأبكي، التقيت بها صدفة في منطقتها، ساعدتني في إنهاء معاملتي، لم تكن جذابة، لكنها، رقيقة طيبة، عرفت الحب معها لأول مرة، رفضتني عائلتها.. لأنها لابن عمها هكذا رسموا حياتها، مستقبلها، لكننا لم نقطع تواصلنا، ذات يوم قطعت ساعات طويلة لتصل إلي، كانت شاحبة بائسة، خائفة.
إذ كانت يائسة تلك الليلة، وانقطعت أخبارها عني لفترة، لكنها عادت لتتصل بي، كلمات متهدجة، باكية، أخبرتني أنها سوف تتزوج بابن عمها، لكنها تفضل الموت على ذلك، لا تحبه، تمقته، أنا أيضاً فكرت بالموت، كنا نفهم بعضنا، قالت لن تتزوجه، ستقتل نفسها ببندقية والدها، وسوف تبعث لي رسالة لتخبرني بقرارها في الانتحار. تمتم الرجل: آه.. خيل لي أنه كان يبتسم، تابعنا خُطانا نحو المرتفع دون كلل، بدأنا نشعر بالبرد، والجو جميل، رائع أن نموت في مثل هذا الوقت، هكذ بدا الرجل يتكلم وعادت رائحته تعطر أنفي، أشعل سيجارته لعلها كانت آخر سيجارة يدخنها. قال قصتك تشبه قصتي، الحب هو هدف الانتحار يا للنساء يجبرننا على الانتحار من أجلهن وهن يتمتعن بالحياة، أحببتها منذ أن كانت صغيرة، كنت أراقبها وهي تكبر وتزداد فتنة، الجميع بارك زواجنا، استعددنا للزواج، أقمنا حفلاً كبيراً حتى...، وصمت احترمت صمته. صبت البنزين على جدار الغرفة والفراش والاثاث. وتركت الرسالة مطوية في البطانية، أشعلت الثقاب، خرجت إلى الأبد مغلقا الباب خلفي، إذ فيما بعد صادفت الرجل.. كنا قد وصلنا إلى نهاية المرتفع سألته: ماذا حدث بعد ذلك؟ ماتت! لكنه سألني: خائف؟!. نظرت إلى الأسفل، هززت رأسي بالنفي: لا .. لست خائفا، وأضفت ساخراً: أنا، أتشوق إلى الانتحار، أمسك بقوة معصمي، قال بصوت عذب لم أعهده: لا.. لم تمت.. قبل ساعات من الحفل، أخبرتني بأنها لا تحبني، وروت لي علاقتها مع آخر، كنت أظن بأني أحلم، أو أنها كانت تمزح..والحفل في غاية البذخ، لكنها لم تأت.. أيقنت آنذاك بأني لم أكن أحلم، وأنها لم تمزح معي.. حركت رأسي أسفاً لأجله، سألني إن كنت مازلت أفكر في الانتحار، أجبته بنعم، وزادت قبضته بقوة على معصمي، تراجعنا قليلاً إلى الوراء، اندفعنا معاً إلى الأمام، قفزنا إلى الأعلى، ثم سقطنا إلى الهاوية.. الهاوية حيث مازالت يده في معصمي سمعته يصرخ وصرخته تلحقنا قائلاً أتدري!.. أنا من بعث إليك بالرسالة، وهوت ضحكاته معنا إلى الأعماق.
قصة بعنوان المقايضة رآها مكبة على الوادي لشيء ما.. أحست به. أدارت رأسها نحوه.. قالت بصوت رقيق طغى على صوت الوادي: عبدالله هذا أنت! تلعثم في البداية، حاول إخفاء ارتباكه وقال بصوت ضعيف: أمك تنتظرك في (الحول). حدقت إلى الجبال.. لم تكن الشمس قد غادرت مكانها بعد فبدأت وكأنها في تحد معها، وتمتمت بكلمات لم يسمعها أنهتها بتنهيدة مؤلمة، ثم التفتت إليه وطلبت منه مساعدتها في حمل دبة الماء إلى رأسها، شكرته بابتسامة رقيقة وذهبت، لكنه ترك عينيه تتبعانها خلسة.. رآها تترجل بين الأحوال بخفة وتختفي بين الأشجار خيل إليه أنه يرى ثوبها الأحمر. تركت دبة الماء عند مدخل البيت، مسحت العرق من جبينها بمعصم يدها، أغمضت عينيها للحظات وتمنت لو لم تلد. ولجت إلى الداخل، والدها مازال نائماً وقد تبعثرت من حوله أوراق القات. قامت بجمع الأوراق ورميها للأغنام ولسان حالها يقول: وما الفرق؟! كان عليها أن تقوم بتنظيف البيت قبل اللحاق بوالدتها لمساعدتها في جمع المحصول. غادرت منزلها مسرعة، التقت بعبدالله في طريقها، يضطرب قلبها كلما تلتقي به، لكنها تستطيع كبح هذا الاضطراب، لكن ابتسامتها أحياناً تكشفها. قال لها بصوت كاد لا يسمع: هل اتي لمساعدتكما في جمع المحصول؟ هزت رأسها وقد اتسع وجهها بابتسامة خفيفة: لا.. سوف يأتي أبي لمساعدتنا. لم يقل شيئاً. كانت تعرف أن باها لن يأتي..تمنت لو أنها لم ترفض طلب عبدالله لمساعدتها، فأرضهم كانت بعيدة عن القرية، وتضطر أحياناً لحمل الماء مسافة طويلة لسقي الزرع أثناء الجفاف. تمنت كثيراً أن يكون لها أخ يساعدهما بدلاً عن والدها المشغول في التهام القات بشراهة. منذ سنوات مضت لم تكن ترى والدها إلا نادراً، يأتي لأيام قليلة ثم يرحل، والآن عندما تقاعد من الجيش، تمنت لو لم يأت، هاهو دائماً قابع في ركن غرفته حيث تنتصب أمامه المداعة وتتكور أعواد القات بجانبه بعناية، تمنت أن يهتم بها كما يهتم بهذه الوريقات. وضعت قبعة القش على رأسها لتحميها من حرارة الشمس، وقبل أن تشرع مع والدتها في جمع المحصول، قالت لها والدتها من دون أن تلتفت إليها: لقد جاء الحاج ياسين قبل قليل يعرض علي أحدى أراضيه بدلا عن ارضنا هذه. أدخلت عنوة قفازها في يدها لترد عنها الشوك، وتمتمت: أي أرض سيعطينا اياها؟ . رمت والدتها سلتها، التفتت نحو ابنتها وقالت: تلك الواقعة تحت بيتنا تماماً. هزت الفتاة رأسها معترضة ثم قالت قائلة: لكنها نصف مساحة أرضنا .. لكن لا بأس فلن نتعب في الصعود مرة أخرى إلى هنا و.. لم تكمل استدارت نحو والدتها، كانت واقفة تحدق إليها، تأملت الفتاة والدتها،وخيل إليها أنها ترى أمامها رجلاً ولي امرأة، حتى ان الشمس توارت بخجل خلف قامة والدتها، يدان قاسيتان ووجه لوحته أشعة الشمس وترك الزمن بصماته عليه، تذكرت والدها، عينيه الجاحظتين وفمه الشبيه بالمرأة الحبلى، سألتها بحذر : ماذ قلت له أمي؟ زفرت الأم بضجر وأخذت بحذر: ماذا قلت له أمي؟ زفرت الأم بضجر وأخذت السلة، وعادت لتجمع فيها المحصول من دون أن تقول شيئاً لم تكن الفتاة بحاجة لجواب والدتها فقد فهمت ردها للحاج ياسين. عندما عادا إلى منزلهما لم يجدا الأب في غرفته فأدركا أنه ذهب كعادته لشراء القات، لكنه عاد سريعاً خالي الوفاض متجهم الوجه، فسرت الفتاة لذلك، لكن الأم لم يرقها الحال فإنه سيبدأ الان بالسب والصراخ، إذ تتمنى في قرارة نفسها أن تراه مخزناً قابعاً في ركن غرفته كالتمثال. في المساء زارهم رجل غريب باحثاً عن والدها حدق فيها وشعرت بأن عينيه تعريانها. كانت الساعة الواحدة ليلاً عندما غادر الرجل الغريب المنزل وقد بدا سعيداً ورأت والدها يمضغ القات الذي تركه له الرجل وعيناه زائغتان إلى المجهول. لكن الفتاة لم تنم فنظرات الرجل لها قد أخافتها... من هو؟ لماذا جاء في هذا الوقت؟ ماذا يريد من أبي؟ أسأله كثيرة لم تجد لها اجابه. في الصباح، سألت الفتاة والدتها عن الرجل الغريب الذي حضر لمقابلة والدها، لكن الأم لم تجب أو أنها اصطنعت عدم سماعها لكنها قالت بعد برهة من الزمن: عبدالله طلب يدك اهتز جسدها وكاد قلبها أن يقفز من صدرها، وقالت بصوت رقيق: عبدالله، ووضعت يدها على صدرها وحاولت إخفاء وجهها.. وركضت إلى المطبخ وأخذت دبة الماء: سأذهب إلى الوادي لأحضر الماء، قالت ذلك واسرعت مبتعدة من تحديق والدتها فيها بدهشة عجيبة. رأته واقفاً يتأمل الوادي.. تقدمت منه خلسة وهمست: عبدالله!. استدار نحوها وعيناه تدمعان، وقال بصوت عال لأول مرة: لقد أخبرني أبي .. أن عبدالله (المقوت) طلب يدك ووالدك قد.. اهتز جسدها للمرة الثانية.. وقالت بكلمات غير مرتبة: ماذا.. يدي.. مقوت. طلب.. أفلتت من يدها دبة الماء. وركضت عائدة إلى منزلها يسبقها قلبها ركضاً كانت والدتها واقفة امام الباب، احتضنتها بقوة لكنها لم تستطع أن تحتضن دموعها..وراحت تردد باكية: أمي.هل صحيح.. أن أبي سوف يزوجني (للمقوت)؟. لكن الأم اجابتها بالبكاء.. وصرخت الفتاة: أمي لا تتركي أبي يبيعني للمقوت.. لست أقل من الأرض.. لست اقل من الأرض، لكن الأم عجزت أيضاً عن الكلام. وعرفت الفتاة فيما بعد أن الرجل الغريب لم يكن سوى عبدالله المقوت الذي جاء إلى والدها مطالباً بنقوده التي فاقت المائة ألف مقابل القات اشتراها منه وعجز عن التسديد فعرض عليه والدها الأرض ولكنه رفض مبرراً بأنها لا تساوي شيئاً... فطلب منه أن يزوجه ابنته، لكن الأب رفض في البداية، وعاد الرجل ليهدده بالسجن فاضطر في النهاية أن يرضخ له ويزوجه ابنته. شاركت الغيوم الفتاة في البكاء في ليلة عرسها، وراحت الأم تبحث عن زوجها من بين المدعوين لكنها لم تجده .. فقد كان في غرفته يمضغ القات!!
هوامش
قصة المقايضة القات: ورقة نباتية تمضغ بالفم.
الحول: هي الارض الزراعية على شكل مدرجات.
المقوت: هو بائع القات


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved