عملية تقييم الوضع التعليمي بوجه خاص والمعرفي بشكل عام في العالم العربي ونقده يصعب أن تكون عملية موضوعية دون الاطلاع بالأرقام على بعض أوضاعه العينية. وفي هذا يمكن مراجعة بعض مؤشرات هذا الوضع من خلال قراءة أمثلة من حالته على الخارطة العربية. وفي هذا الصدد نقرأ ثلاثة محددات يمكن من خلال الوقوف على تلك المؤشرات والكيفية التي تتداخل بها للكشف عن بعض ملامح ذلك الواقع.
هذه المحددات ستكون على التوالي: الواقع التعليمي، الواقع البحثي، متمثلاً في (عدد ووضع الباحثين العرب، وموقع المؤسسات البحثية).
المحدد الأول، الواقع التعليمي
وستتم مراجعة هذه النقطة كما جاء في إحدى الدراسات بالتوقف عند ثلاثة مؤشرات من مؤشرات التعليم في الدول الأعلى كثافة سكانية في العالم العربي هذه الدول هي: مصر، المغرب، الجزائر، العراق، السودان والمملكة العربية السعودية. إذ يوجد في هذه الدول الست كثافة سكانية من المجمل السكاني العربي تصل إلى 71%. أما المؤشرات التي تستخدم لقياس العملية التعليمية فهي: مؤشر نسبة الأمية بين الكبار، متوسط سنوات التعليم التي تتاح للمواطن والمتوسط العددي للملتحقين بالمرحلة الثانوية والجامعية.
بالنسبة للمؤشر الأول: في العام 1999م كان معدل أمية الكبار في الدول المذكورة يفوق معدلها في عموم العالم العربي الذي كان يصل إلى 32% بحيث ارتفع ذلك المعدل إلى 52% في المغرب وانخفض إلى 14% في السعودية فقط.
بالنسبة للمؤشر الثاني: في عقد التسعينيات أيضاً كان معدل سنوات الالتحاق بالمدرسة للمواطن 3.4% في عموم العالم العربي بينما انخفض هذا المعدل في الدول المشار إليها وهي ذات الكثافة السكانية الأعلى إلى ما يقل عن 3% فيما عدا السعودية التي ارتفع فيها معدل سنوات الدراسة للمواطن عن ذلك الرقم قليلاً فوصل إلى 3.9%.
أما في المؤشر التعليمي الثالث وهو معدل الالتحاق بالدراسة الثانوية والجامعية فقد أشارت النتائج الإحصائية لمرحلة التسعينيات أنه وصل إلى 53.7% بعموم العالم العربي. إلا ان هذا المعدل ينخفض في الدول ذات الأعداد السكانية العالية لأقل من 48% وهو المتوسط القائم فيما يشار إليه البلدان المتقدمة. وباستثناء مصر فإن كلاً من الدول العربية الست المشار إليها تعاني من انخفاض في معدل الملتحقين بالجامعة بالمقارنة لمعدلات الالتحاق بالمرحلة الثانوية.
المحدد الثاني، وضع الباحثين العرب
وفي هذا فإن المؤشر الأول المعتمد هنا هو أعداد الباحثين العرب فنجد أن عددهم قد ارتفع من 14500 باحث مطلع التسعينيات إلى 19000 فيما بعد منتصفها وما فوق على أنه بالرغم من هذه الزيادة في أعداد الباحثين فإنه لا يزال يعد رقماً متواضعاً بالمقارنة لأعداد الباحثين في الدول المتقدمة، فعلى الخارطة العربية ككل هناك فقط ما يعادل 0.8% لكل 1000 من القوة العاملة المطروحة في سوق العمل. ولا يبشر المستقبل القريب بزيادة ذات أهمية تذكر لتلافي هذه النسبة المتدنية في أعداد الباحثين بالنظر لقوة العمل حيث لم تزد التقديرات الأولية بالمقارنة بين أعداد الحاصلين على درجة الدكتوراه والماجستير وبين المشتغلين منهم في القطاعات البحثية على 5.2% إلى ما بعد منتصف التسعينيات ومطلع الألفية الميلادية الثالثة. وهي تعتبر من أدنى معدلات أعداد المشتغلين بالبحث العلمي في العالم أجمع وليس فقط بالمقارنة للدول المتقدمة بحسب تقارير اليونسكو.
مع ملاحظة أن هذه النسبة في أعداد الباحثين رغم تدنيها لا تتمتع بها جميع الدول العربية بل إن هذه النسبة تتضاءل كثيراً عن هذا الرقم في أغلب الدول العربية بما فيها الدول النفطية باستثناء مصر مما يعني وجود فجوة معرفية في مجال البحث العلمي يضاف إلى فجوات التفاوت الأخرى بين أوضاعه بعضها البعض وبينه وبين مجتمعات العالم. ومع ملاحظة أيضاً ان هذه النسبة رغم تدنيها أيضاً لا تتوزع بعدل على جميع مجالات البحث التي يجدر بالعالم العربي ان يهتم بها معرفياً وتطبيقياً. فهذه النسبة الصغيرة لأعداد الباحثين أي نسبة 5.2% من قوة العمل تتركز غالبية نشاطها البحثي في المجال الريفي للدول ذات الاقتصاد الزراعي، إذ أن نسبة 45% من أعداد الباحثين تعمل على البحوث في الحقل الريفي والزراعي بالمقارنة لـ13% منهم ممن يعملون في مجال بحوث القطاع الصحي على سبيل المثال وهو القطاع التالي مباشرة للقطاع الزراعي. ويتدنى العدد عن هذا المعدل بنسب كبيرة إذا قارناه بحقول البحث الأخرى في المجالين للعلوم التطبيقية والاجتماعية على حد سواء بما فيها مجالات البحوث في التربية والتعليم. أما ما يجدر لفت الانتباه إليه بشدة في هذا الصدد فهو أن هذه الأرقام لا تكشف عن مستور مستوى هذه البحوث علمياً وتطبيقياً كما لا تكشف عن ضعف تأثيرها في مجالات التخطيط التنموي ان لم يكن استبعادها استبعاداً يكاد يكون مبرماً من أن تكون نتائج بحثها أحد الحيثيات على الأقل التي يجرى على أساسها اتخاذ القرار السياسي الخاص بالمجالات المبحوثة.
المؤشر الثاني هو حالة الباحثين العرب فمعظم الباحثين العرب هم نتاج ذلك النظام التعليمي الذي لا يعطي على مدى اثني عشر عاماً من التعليم النظامي ما قبل الجامعي أي أهمية معرفية أو تطبيقية للعمل البحثي. إذ يكاد ألا يكون هناك وجود يذكر لمفردة بحث علمي في المناهج الدراسية من المرحلة الابتدائية إلى المرحلة الثانوية. ولذا فإن مفردات مثل بحث علمي ومناهج البحث وأدواته التطبيقية وما إليه تعتبر مفردات نافرة وغريبة على الطالب عندما يلتحق بالجامعة. ومع الأسف وبشيء من الصدق مع النفس فإن التدريب الذي يتعرض له الطالب الجامعي للتعاطي مع مجال البحث العلمي هو تدريب قاصر ويؤدي لتعليم الطالب صنعة الخفة في القص واللزق والاستعارة غير العلمية أكثر من تعليمه مهارات البحث العلمي. فالتعليم والتدريب على البحث العلمي غالباً ما يقتصر على الاجترار النظري لخطوات البحث العلمي ونادراً ما يخرج على الحيز الصفي ليجرب التدريب على الجانب التطبيقي من مفهوم البحث العلمي. هذا ناهيك عن ذلك التواطؤ المريب الذي أخذ يستشري وخصوصاً في الدول النفطية بين الطالب والأستاذ ونظام التعليم في العلاقة بمجال الدربة البحثية تحديداً. إذ لا يتورع الطالب عن الالتجاء إلى إنجاز البحوث المقررة عن طريق مكاتب الطالب التجارية ولا يتورع الأستاذ الذي لا يكلف الطالب بهذه البحوث إلا من باب سد ثغرة في توزيع الدرجات أن لا يكلف نفسه بالاطلاع على ما كلف الطلاب به من بحوث إلا في اللحظات الأخيرة قبل تسليم الدرجات بما لا يؤهله لمناقشتها وتوجيه الطالب في الأساليب العلمية للبحث والكشف عما إذا كان البحث يمثل فعلاً مجهود الطالب أو مجهوداً مشترى لبحوث ملفقة ومبتسرة. وعدا عن معاناة ضعف إعداد الباحث في الواقع العربي هناك عوامل إضافية لأشكال أخرى من المعاناة. فعلى الرغم من الندرة في أعداد الباحثين العرب كما توضح الأرقام هناك سوء الاستخدام لخدمات هؤلاء الباحثين وهو جزء من الإهدار العربي العام لطاقاته البشرية وذلك بتعطيل الباحثين عن القيام بالمهام البحثية التي ينتدبون للعمل بها عن طريق الزج بهم في أعمال إدارية أو إدخالهم في دائرة الروتين البيروقراطي التي تبطئ البحث وتطفئ حماس الباحثين في القيام بأي عمل بحثي.
هذا بالإضافة إلى الأساليب التنفيرية والتثبيطية التي توضع في طريق الباحثين بحجب المعلومات البحثية عنهم أو عدم إعطائهم الأذون أصلاً للبحث إلا بعد سلسلة طويلة من الإجراءات الرقابية والأمنية وكأنهم محملون بمرض معدٍ أو يحملون مواد ممنوعة.
وإن كنت لن أتوقف عن حجب الحريات البحثية الأخرى لكثرة ما قام بالتفجع المشروع عليها حيناً والمبالغ فيه أحياناً الكثير من الكتاب العرب فإنه لا يمكن ان نغفل قلة التقدير الاجتماعي مع تدني العائد المالي الذي لو توفر كان سيكفي الباحث مؤونة تحين الفرص للحصول على موارد معيشية ومواقع اجتماعية أخرى.
المحدد الثالث، حالة المؤسسات البحثية
ونكتفي بالاستدلال عليها من خلال مؤشرين فقط.
المؤشر الأول هو مؤشر نوع المواضيع التي يتم بحثها أي ما الذي يحدد الأجندة البحثية لمؤسسات البحث العربي بشقيها الحكومي والخاص هل يحددها الجانب السياسي ، هل يحددها التوجه الأيديولوجي والفكري السائد، هل تتحدد في ضوء الضغوطات أو لنقل مقترحات الخارج، هل تحددها احتياجات السوق أو تحددها حاجات المجتمع وطبيعة مطالبه التنموية، هل تتحدد في ضوء ميول الباحثين وفضولهم المعرفي نحو تلك أو هذه من القضايا؟
إلى هذه اللحظة يبدو ان قوائم البحوث التي تتصدالها معظم مؤسسات البحث العربي تحدد في ضوء خليط هجين من مجموع هذه العوامل.
المؤشر الثاني وهو المؤشر الأخير في بحث الواقع المعرفي في العالم العربي هو مؤشر التمويل. إن التمويل الحكومي لمؤسسات البحث العلمي لا يزال من أصغر المعدلات في العالم أجمع. فبينما نجد الدول العربية مستعدة أن تصرف بسخاء مبذر في مجال التسلح وعلى أسلحة مصيرها الصدأ في المخازن فإن معظمها ضنين إلى حد الشح في تحديد ميزانية مؤسسات البحث، فمؤسسات بحثية مثل مركز البحوث القومي بمصر، مؤسسة العلوم الكويتية، المجلس الأعلى للعلوم بالأردن ومدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية غالباً ما تبحث عن مصادر إضافية لتمويلها البحثي عن طريق القطاع الخاص بتقديم الأعمال البحثية أو الاستشارية.
أما حال الجامعات في العالم العربي ومركزها للبحث العلمي فليست أفضل حالاً لا من حيث الكم ولا الكيف.
وبعد نهدي هذه الصورة الملونة أو بالأحرى المسودة بالأرقام كمشاركة محلية عن بعد إلى الملتقى العربي للتربية والتعليم الذي تعقده مؤسسة الفكر العربي بعيداً عنا. هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد.
|