أما التطرف والغلوّ فهما داءان من أدواء المجتمع، ومرضان من أمراض العقيدة، وإن كانا على طرفي نقيض لأن التطرف ينجذب إلى حافة التساهل وعدم المبالاة، بينما الغلو تجاوز الحد، والتشديد على النفس، كما حصل لأهل الكتاب الذين غلوا في دينهم، وشددوا فشدد الله عليهم، وقالوا على الله غير الحق. ومع مافي الميل الى أحد هذين المرضين الخطيرين، من تشبّه بالكفرة الذين ذمّهم الله، لتجاوزهم الحد، لأن الزيادة في الدين كالنقص، كله محدث ومردود على صاحبه، فهما يقودان الى الارهاب والعنف، وقد ذمّ الله هؤلاء وهؤلاء، حيث ينجم عن ذلك ترويع المؤمنين وإخافة الآمنين. ودين الاسلام: دين العدالة والإخاء، والمودة والتآلف: يحرِّم ترويع المسلم، ويحرِّم رفع الحديدة والسلاح، ولو كان بالمزاح في وجه المسلم ويشدد في الغيبة والنميمة، لما وراء ذلك من أضرار، فكيف بالكذب والبهتان، ولمّا قرأ بعض العلماء الحديث الذي ورد في صحيح مسلم في معنى الفاتحة، وتذاكروا اثره، قال سفيان بن عيينة في «غير المغضوب عليهم ولا الضالين»، من فسد من علماء الإسلام ففيه شبه باليهود، الذين عندهم علم ولم يعملوا به، ومن فسد من عبّاد المسلمين ففيه شبه بالنصارى يعبدون الله على جهل وضلال. ولما كانت بعض النفوس ينقصها الوعي، ويغريها نتيجة الجهل لحن القول، فتنقاد طائعة او مقلدة للناعقين، فإن المجتمع المسلم، يجب أن يتظافر القادرون فيه علماً وفهماً في إصلاح النفوس، وتوعية القلوب، وخاصة الشباب الذين ينقصهم بعد النظر، وحسن الادراك والعلم، وهذا التظافر بالتوجيه والتوعية ضمن محاور عديدة اهمها: المنزل والمدرسة والمجتمع، والإعلام.. فالمنزل هو المحطة الاولى التي يتلقى فيها الشباب: ذكوراً وإناثاً اول درس في الحياة، وتفتّح على المجتمع. ويبدأ هذا الدور في اختيار الزوجين احدهما للآخر يقول عمر - رضي الله عنه -: «اختاروا لنطفكم فان العرق دساس»، لأن حسن التربية تعطي ثمرة جيدة، والوالدان والاخوة ومن في المنزل، منهم يأخذ الطفل الأدب الاول: تلقيناً وتقليداً، وقدوة تحتذى إما نافعة اذا كان الوالدان صالحين عارفين، او ضارة اذا كان العكس، فيرسخ ذلك في ذاكرة الصغير لينعكس على اعماله وتصرفاته بعدما ينمو، ولذا فإن دور الرعاية والرقابة المنزلية من أقوى لوازم الاستقامة لدى الشباب إذا كانت حسنة، او الانفلات والاستسلام لأصحاب الأهواء والغايات، إذا كانت معدومة او ضعيفة. ثم تكبر الدائرة مع كبر المسئولية في المدرسة حيث تودَّع الامانة في البيت اليها، ليكبر محيط الاخذ، مع اتساع المعرفة، وتعدد الايدي، والألسنة، التي توجه الشاب، مما يجب معه التعاون بين الميدان الاول، الذي نشأ فيه طفلاً، والثاني الذي دبّ فيه طفلاً، ثم ترعرع فيه شاباً، حريصاً على المعرفة لنموّ عقله، وقدرته على الاستيعاب.. مما يجعل الحمل ثقيلاً على المدرسة، والمسئولية واجبه الأداء على الهيئة التعليمية، في التعامل مع هذا الشاب وحسن رعايته وتوجيهه، حتى يخرج للمجتمع عضواً نافعاً، وعقلاً ناضجاً وهذا حتمي في اختيار ومتابعة المدرسين والكتب والمناهج، وتقويم ذلك، بمتابعة النتيجة، ووضع الجهود على المحكّ، ليتم التعديل بما يحقق الهدف المنشود لمن أوجدت المدارس من اجلهم، ان حسن التعامل من قبل المدرسة بهيئتها، والإخلاص والصدق في العمل، والمثالية أمام الطلاب، هو خير ادب وعمل يترك الأثر الحسن في التلاميذ، ليخرجوا للمجتمع صالحين في انفسهم، مصلحين ومرشدين لغيرهم، متأدبين بمدرسة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، حيث كان روادها شباباً، أصلحوا الأمم بعد مجتمعهم. فاذا كان الفلاّح يهتم بزراعته، رغبة في محصول جيد فيتعهدها منذ بدأ يضع البذور في الارض: سَهَراً ومراقبة وعملاً ومتابعة، فكذلك الاب والمدرس يجب عليهما غرس ماينفع الطالب، وتحذيره من الأضرار التي تكتنفه بسلاح العلم والعقيدة، للبعد عن: قرناء السوء، ومداخل الشرّ، وكل عمل مثير ينعكس على نفسه والأمة بالضرر، ولا يضيرهما ان يحتذيا سيرة حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، وفتح المجال امامه للسؤال، وقلبيهما للإجابة المفيدة، المعينة على تخطي العقبات. فقد كان حذيفة يقول: كان الناس يسألون عن الخير، وكنت أسأل عن الشر مخافة الوقوع فيه.. لأن للخير علامات ومقاييس يجب ترسيخها في ذهن الشاب قبل خروجه للحياة العملية، وللشر كذلك يجب تعريفه بها وتحذيره من الدخول في شبكاتها. فالفلاح يجهد نفسه ومن يعاونه، لعله ينعم بالثمرة الطيبة، وكذلك الأبوان والمدرسة يجب ان يخلصا في العطاء حتى تكون الثمرة مجزية، وذلك بعد المراقبة و والمتابعة.. لأنها امانة دينية امام الله، وامانة اجتماعية امام ولاة الأمر، حيث يجب ان يكون من الاهتمام بالشاب: تعويده المحافظة عن قناعة على آداب الاسلام وتعاليمه، من مصدريه: كتاب الله وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم: علماً يأخذه، وفهماً يطبّقه، وتأدباً يتأسى به، وطاعة لولي الامر يحافظ عليها، ومتابعة من العلماء، سؤالاً واسترشاداً.. حتى يكون مأخذه حسناً، ورعايته موفقة لأن الله أمر بذلك في قوله الكريم { فّاسًأّلٍوا أّهًلّ الذٌَكًرٌ إن كٍنتٍمً لا تّعًلّمٍونّ><ه7ه>} [الأنبياء: 7] وهذه الامور اهم من التحصينات الصحية، بالتلقيحات: خوفاً على الناشئة من المرض، لأن صحة القلب وسلامة الفكر اهم من صحة البدن، وسلامة العضلات. ومع هذه الامراض ينفتح باب الفتن، وما يتبعها من فساد وإفساد وارهاب وقلق، ولا يوقد نار الفتن في المجتمع الاسلامي، الا الفاسقون في المجتمع، الذين يجعلهم العدو مشجباً يعلّق عليه مآربه، ويغريهم ليظلهم ويمنّيهم، وما يمنّونهم الا غروراً، لأن من دعوات الرسول التي استجاب الله له نحو أمته: «الاّ يسلط عليهم عدواً من غير أنفسهم». وحتى يحصّن الشباب فكرياً عن التأسي بأعمال الاعداء، او مساعدتهم في الإضرار بأمتهم، وان يبتعدوا عن الفتن التي في الغالب لا يحركها الا اليهود، او المتعاونون معهم، ممن يكنون للإسلام والمسلمين العداوة والبغضاء، فإن الواجب تظافر الجهود بكل وسيلة وبالإعلام في إبانة اساليب الاعداء، في غزوهم الفكري، وتحذير الشباب من مكائدهم، وتوفير فرص العمل للشباب التي تشغلهم وتلبي رغباتهم، لأن العدو يتلمس نقاط الضعف، ومواطن الإغراء ليدخل معها، حتى يثير الفتن، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد لعن مثيرها ومشيع الشر فيقول: «الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها» كفانا الله من الشرور وأذل سبحانه مثيري الفتن، وموقدي نارها.
نكبة القيروان
ذكر محمد المرزوقي والجيلاني بن الحاج في كتابهما عن الحصري القيرواني، وسبب نكبة القيروان: ان المعز بن باديس لما تولّى الملك عام 407هـ خلع بيعة الفاطميين في القيروان، فمال وزيرهم في القاهرة «اليازوريّ» الى الانتقام بواسطة تسريح اعراب الصعيد من هلال وبني سليم الى افريقية، جاعلاً لهم ما يستولون عليه، ومساعداً على تجهيزهم بالاموال، فانتشرت جموعهم الاولى بولاية طرابلس كالجراد، وملأوا أيديهم من النهب والسلب. فكما سمع بنو عمهم في الصعيد مانالوه من خيرات، لحقوا بهم بمساعدة «اليازوريّ» وكانت جموع الأعراب الاولى التي وصلت افريقيا تتكون من قبائل هلال ورباح، وعديّ وزغبة ثم التحقت بهم قبائل عديدة من سليم، بعد ان أرضوا «اليازوريّ» بأموال اضعاف مابذل للأولين من قومهم، وهو باطنيّ يضمر الشر. وذكر المؤرخون: ان المعز بن باديس الصنهاجي، كان غير عابئ بخطر الأعراب في اول الامر، فقرب بعض امرائهم: كمؤنس بن يحيى الرياحي، بل وطلب من مؤنس ان يستدعي له بني عمه، ليجعلهم بطانته، وجنده، حتى يقوى بهم على صنهاجه وزناتة، فنهاه الأمير مؤنس مخلصاً له النصيحة، فاتهمه المعزّ باحتكار الجاه والسؤدد دون بني عمه، فرضخ للأمر واستدعاهم، فعاثوا في الارض فساداً، وهناك ادرك المعزّ خطأه، فطلب من مؤنس ردعهم، فاعتذر فعاقبه المعزّ بحبس اهله وأرزاقه عنه، فكان ذلك سبباً للزحفة الماحقة التي انكسر فيها جيش المعز انكساراً ماحقاً، دفعه الى مصالحة الأعراب، وتزويج بناته من بعض امرائهم سنة 444هـ. ولكن ذلك لم يفده شيئاً، فأذن للناس بالرحيل الى المهديّة الحصينة، وانتقل هو إليها وهناك وافاه الأجل، وعاثت الأعراب في القيروان وصَبْرَه، فخرّبوهما تخريباً فاجعاً، وتشتت اهل القيروان عام 449هـ شرقاً وغرباً وتركوا مدينتهم نهباً للفوضى والتخريب، ومات من اهلها في البراري عطشاً خلق لا يحصى (أبو الحسن الحصري القيرواني (ص11ـ12)
|