قال ابني ذو الأحد عشر عامًا: إنه رأى في منامه (أم قصر) وقد خلت من الأمريكيين والإنجليز، وأن أهلها العراقيين يسيطرون عليها، وأنه رأى الأطفال العراقيين يلعبون على شواطئ البحر..
كان هذا هو حلم (أدهم) وهو بلا شك حلم أطفال العالم العربي بما فيهم أطفال الكويت، الذين ولدوا على هذه الأرض، وعرفوا أن بلاد العرب كلها بلادهم. لم أكن قد لقنت (أدهم) شيئا قبل أن ينام مما يدور في عقلي، لكنه بوراثة الفكر والمكان، كان يفهم شيئا كثيرا.
حلم أطفال العرب، هو حالة الوعي في عقل شباب ورجال ومسني العرب، الذي تطور من الحلم إلى العقل. وهو ما لم تفهمه عقلية هذا القادم إليهم، ومعه حلم الثروة التي يتحدث عنها في كل مناسبة. في تصريح لوزير الخارجية الأمريكية، بعد صمته أسبوعا من بدء الغزو، قال: إننا معنيون بتوزيع الثروة العراقية على أبناء العراق. وهو معنى مقلوب. كيف يوزع الثروة من لا يملكها، حاولت أن أطرح هذا المعنى على مواطن عربي بسيط، فقال بمنتهى التلقائية: (هل فلوس العراق في أمريكا مع الأمريكان..؟!).
يلخص هذا المنحى في الثقافة السياسية الأمريكية، خطابا أساسيا وجذريا في الفكر الأمريكي الذي نشأ على حلم المال والثروة، إن ثقافة المال، هي هاجس المؤسس الأمريكي. بل هي معادل موضوعي في معظم الأعمال الأدبية والفنية في ثقافة المجتمع الأمريكي، ويمكن لأي باحث مدقق أن يتتبع هذا المنحى، في أعمال أدبية وفنية من الفكر الأمريكي، حيث تحفل الأفلام الأمريكية السينمائية، في أشهر أعمالها بموضوع المال، فعلى سبيل المثال فيلم ( من أجل حفنة من الدولارات) بل إن معظم أفلام الغرب الأمريكي التي مثل شخوصها أشهر نجوم السينما الأمريكية مثل (تشارلز برونسون) و(كلنث شتود) و(فان كليف) تتمحور حول ثقافة الثروة، فمثلا في أحد أفلامهما المعروفة (القبيح والشرير والطيب) يتصارع الثلاثة على كنز المال. ويفوز به - على ما يبدو - الرجل الشرير. هذا المعنى يختزل الذهنية التي يقوم عليها الخطاب الأمريكي. وهي نفس حكايات القرصان الشهير (مورجان) التي أوردها الأستاذ (محمد حسنين هيكل) في مقاله بعنوان (الامبراطورية على الطريقة الأمريكية) مجلة (وجهات نظر مارس 2003) يقول:
ومن قصص المغامرات أعجبت الولايات المتحدة بالقرصان الشهير الكابتن (مورجان) الذي تمكنت أسرته في عصور لاحقة من العثور على كنزه واستعملته في رأس مال بنك مورجان العتيد - وكان الإعجاب الأمريكي بمورجان استيعابا لفلسفة ذلك القرصان الذكي وجوهرها يظهر في مقولته: (إن القرصان العادي هو الذي يغير على السفن المسافرة، ويقتل ركابها الأبرياء وينهب حمولاتها من الأشياء والنقود، وأما القرصان الذكي فإنه لا يغير إلا على سفن القراصنة الآخرين، ينتظرهم قرب مكامنهم - عائدين محمَّلين بالغنائم، مجهدين من القتل والقتال، ثم ينقض عليهم محققا جملة أهداف:
- يحصل على كنوز عدة سفن أغار عليها القرصان العادي في رحلة شاقة وطويلة - لكن القرصان الذكي يحصل عليها جاهزة بضربة واحدة.
- لا يرتكب بالقرصنة جريمة، لأنه نهب الذين سبقوا إلى النهب، وقتل الذين سبقوا بالقتل - وعليه فإن ما قام به لم يكن جريمة، وإنما عقاب عادل، ولم يكن قتلا وإنما هو القصاص حقا.
- إن القرصان الذكي بهذا الأسلوب يصنع لنفسه مكانة وهيبة تذكرها تقارير النهار وتتذكرها حكايات الليل!
ومعنى تطبيق أسلوب الكابتن (مورجان) - أن الولايات المتحدة لا تشغل نفسها بالسيطرة على بلدان مفردة، وإنما تأخذ الأقاليم بالحزمة. ولا تبلع الدول لقمة بعد لقمة، وإنما تبلع المائدة بكل ما عليها، بما في ذلك الأطباق والأكواب، وأدوات الطعام - والمفارش أيضا، (وذلك متسق بثقافة التجربة مع الاستيلاء على قارة بأكملها عامرة بكل ما تحمله في بطنها وعلى ظهرها)! (هيكل ص 5-6).
إنها الفكرة نفسها التي تقوم وقامت عليها هذه الولايات الأمريكية. (فكرة استبدال شعب بشعب، وثقافة بثقافة) (العكش ص15) وهو المنطق نفسه الذي قاله سناتور قديم من أعضاء مجلس الشيوخ عام 1846م هو (السناتور هارت بنتون) في ذلك الوقت المبكر من ذهنية الأمريكي الطامع التي كانت يداه لا تزالان متلطختين بدماء (الهنود الحمر) أهل البلاد الأصليون. يقول:
(إن قدر أمريكا الأبدي هو الغزو والتوسع. إنها مثل عصا هارون النبي (يقصد موسى) صارت أفعى وابتلعت كل الحبال. هكذا ستغزو أمريكا الأراضي وتضمها إليها أرضًا بعد أرض، ذلك هو قدرها المتجلي. أعطها الوقت وستجدها تبتلع في كل بضع سنوات مفازات بوسع معظم ممالك أوروبا. ذلك هو معدل توسعها). (العكش ص105، 2002).
وقد ترجم هذا الفكر فيما يشبه (المهمة المقدسة) المحمومة بدوافع تنمية (الثروة) حتى لا تتحول (المحيطات الحامية) إلى (محيطات عازلة)، وهكذا شاعت - كما يقول المؤرخ (جور كينان) تعبيرات مثل: (واجب شرف) و(مهمة مقدسة) و(حتمية ضرورية) تستدعي الشرف الأمريكي، التي تم تطويرها الآن بعبارات مثل (الديموقراطية) (رفع الظلم عن كاهل الشعوب) (توزيع الثروة) والعجيب أنها تعبيرات ومصطلحات كان يعاديها الفكر الرأسمالي ويعتبرها تعبيرات (راديكالية). لكن لكل مقتضيات حال مقتضياته، ولكل زمان خطابه، وهكذا تم تجريد أول أسطول بحري للانطلاق من أسر المحيطات العازلة الحامية إلى (قدرها المتجلي) حيث تم بناء نواة هذا الأسطول من خمس عشرة مدمرة سنة 1890م
وكانت فاتحة أعمال هذا الأسطول الاستيلاء على جزر (هونولولو) عام 1897م ثم جاء الدور على الفلبين عام 1898م والغريب أن الأسباب المعلنة لذلك الغزو هي الفكر نفسه، والخطاب المعلن الآن سنة 2003م في غزو العراق. حيث كان غزو الفلبين بأسباب (إنقاذها من أزمة داخلية وإعلاء حريتها). المسافة بين أقرب ولاية أمريكية، والفلبين تطويها الطائرة النفاثة الحديثة في يوم كامل من الطيران، حيث تلك في أقصى الغرب، وهذه في مبتدأ الشرق، ولم يكن لديها (أسلحة دمار شامل) وربما كان لديها ذهب (مورجان).
وبعد نصف قرن، كان هاجس (السناتور بنتون) لا يزال يرن في الأذان ولا يزال هو الخطاب العالي في فكر المتحصنين بالمحيطات، فها هو سناتور آخر هو السناتور (ألبرت بيفردج) عام 1898م يقول:
(عليكم أن تتذكروا اليوم ما فعله آباؤنا - علينا أن ننصب خيمة الحرية أبعد في الغرب، وأبعد في الجنوب، إن المسألة ليست مسألة أمريكا، ولكنها مسألة زمن يدعونا إلى الزحف تحت العلم، حتى ننشر الحرية ونحمل البركة إلى الجميع. علينا أن نقول لأعداء التوسع الأمريكي،: إن الحرية تليق فقط بالشعوب التي تستطيع حكم نفسها، وأما الشعوب التي لا تستطيع فإن واجبنا المقدس يدعونا لقيادتها إلى النموذج الأمريكي في الحياة. لأنه نموذج الحق مع الشرف. فنحن لا نستطيع أن نتهرب من مسؤولية وضعتها علينا العناية الإلهية لإنقاذ الحرية والحضارة. ولذلك فإن العلم الأمريكي يجب أن يكون رمزا لكل الجنس البشري!). (هيكل ص7).
وهكذا حينما تم غزو الفلبين، كانت واحدة من الصور لهذا الغزو، قد وصفها تقرير أحد أعضاء الكونجرس، نقلها المؤرخ (ستانلي كارنوف) بما يلي:
(إن القوات الأمريكية اكتسحت كل أرض ظهرت عليها حركة مقاومة، ولم تترك هناك فلبينيا واحدا إلا قتلته. وكذلك لم يعد في هذا البلد رافضون للوجود الأمريكي لأنه لم يتبق منهم أحد).
ثم أضاف عضو مجلس الشيوخ طبق ما نقل عنه صحفي رافقه في رحلته ما نصه: (إن الجنود الأمريكيين قتلوا كل رجل، وكل امرأة وكل طفل وكل سجين أو أسير، وكل مشتبه فيه ابتداء من سن العاشرة. واعتقادهم أن الفلبيني ليس أفضل كثيرا من كلبه - وخصوصا أن الأوامر الصادرة إليهم من قائدهم الجنرال (فرانكلين) قالت لهم (لا أريد أسرى - ولا أريد سجلات مكتوبة!). (هيكل ص8).
لقد خلفت هذه الحرب التي استمرت من عام 1898م وحتى 1910م أكثر من تسمائة ألف فلبيني من الضحايا، وفي جزيرة سامار وحدها أمر أحد الجنرالات واسمه (جاكوب سميث) بذبح 8294 طفلا، و2714 امرأة، و420 رجلا، وإذا ما تذكرنا قول السناتور (بيفردج) السالف، ومضاهاته بما أحدثته الجرائم الأمريكية التي اتخذت بحق الأبرياء من الفلبين، يتضح أنه ليس له صلة بنشر الحرية، وحمل البركة إلى الجميع، ولا الواجب المقدس، وليست نموذجا للحق والشرف، والعناية الإلهية براء مما اتخذوه بحق الإنسان، الذي استخلفه الله في هذه الأرض لعمارتها، وبث العدل والتسامح والرحمة. ولم يكن قتل الأبرياء نموذجا من نماذج الحرية والحضارة بأي حال من الأحوال. ومنذ ذلك التاريخ ظلت الولايات المتحدة الأمريكية، عاملا مؤثرا دائميا في مجريات الأمور السياسية في الفلبين، فهي التي دعمت حكم أشد حكام الفلبين ديكتاتورية) (ماركوس) تحت عنوان محاربة الشيوعية، ولا تزال ترن في أذهان الفلبينيين بشاعة المجازر الأمريكية قبل قرن من الزمان.
وربما يذكرنا ما حدث في الفلبين، بما حدث بعد أكثر من نصف قرن، حينما غزت القوات الأمريكية فيتنام، في صور وحشية، تعتبر أبشع ما اتخذ بحق الإنسانية على مر العصور. استطاعت وسائل الإعلام والمعلومات أن تنقلها بالصورة، أكثر مما كانت التقارير والكتب تنقلها وتوثقها. لقد قتل في هذه الحرب، أكثر من مليوني ضحية من البشر، ولا تزال فضائح حرب فيتنام، مادة تفتح صفحاتها حتى بين أصحاب المصالح الأمريكية نفسها وتصفية الحسابات. لقد كانوا يشبهون الشعب الفيتنامي (بالنمل الأبيض) الذي يستوجب إبادته بمبيدات الحشرات، وكانوا يستخدمون سلاح الإبادة - وعلى نحو ما يعبر منير العكش - (على مدى أكثر من أربعة قرون يستخدمون سلاح الإبادة دون أي رغبة في أن يعرفوا شكل ضحاياهم أو عددهم، لقد سهل القصف الجوي وإطلاق الصواريخ عن بعد، والقتل الإلكتروني هذه المهمة حتى جعلها أشبه بلعب التسلية. إن الفلاح الفيتنامي تحول إلى نملة بيضاء، مثلما تحول الهندي إلى دودة، والفلبيني إلى حشرة، والعربي العراقي إلى صرصار).
إن عقيدة الإبادة الوحشية، في تاريخ وفكر المستعمر الأنجلوسكسون الذي استعمر الأراضي الأمريكية، بعد أن اغتصبها من أهلها الأصليين (الهنود الحمر)، تقوم على مفهوم (القدر المتجلي) التي أصبحت عقيدة، ترى أن لها الحق في غزو العالم الذي تراه الأدنى منها تميزا، وأن تنعم عليه بالحرية والنماء وفق ما تراه، وحتى إذا اقتضى الأمر الإبادة الشاملة، كما ظهر واضحا في كل الحروب التي جردتها أمريكا على العالم، بدءا من الهنود أهل البلاد، مرورا بجزر (هونولولو) والفلبين، وفيتنام، والآن البلاد العربية. في هذا النص المقتطف من (منير العكش) تبدو ذهنية المقاتلين الأمريكيين، وقد تشربت عقيدة (القدر المتجلي)، وفق المفهوم الذي صاغت به هذه العقيدة، يقول:
( وفي عام 1968م عندما اقتحمت قوة أمريكية شبه جزيرة باتنغن Batangan وراحت تحرق القرى وتقتل فلول الفيتناميين الفارين من أذاها قال أحد القتلة: (لقد أمضينا وقتا سعيدا هنا وتسلينا). وفي فبراير 1991م كانت الطائرات تطلق النار على طوابير العراقيين المنسحبين إلى البصرة. وفي خبر من على متن Uss Ranger قال أحد الطيارين: (لقد كنا نزجي الوقت في صيد طيور التركي).
وقال آخر: (لقد تسلينا. كان قتلهم أشبه بصيد السمك من البراميل). ذلك هو طقس التضحية بالآخر الذي رافق نشوء أمريكا وتاريخها لحظة لحظة، وتلك هي ضحاياها كما يقول الزعيم سياتل في عام 1854م قبيلة تمضي على أعقاب قبيلة، وأمة تلحق بأمة كأنهم موج البحر). (العكش ص91).
هامش
- اعتمد هذا الموضوع بشكل رئيس على الكتاب المثير والمهم والموثق الذي وضعه (منير العكش) بعنوان (حق التضحية بالآخر) أمريكا والإبادات الجماعية الصادر عام 2002م، وهو جزء من مشروع بحثي يتتبع فيه المؤلف (ما جرى للشعوب الأمريكية الأصلية، وكيف تمكن مستعمرو أمريكا من إبادة سكان قارة كاملة (علمت لاحقا أن عددهم يزيد على 112 مليون إنسان، لم يبق منهم في إحصاء أول قرن العشرين سوى ربع مليون). وسوف أعود إلى هذا الكتاب مرة أخرى.
|