من أكبر المشكلات التي نواجهها بشكل عام لدى قراءتنا للآراء المنشورة في الصحف والمبثوثة عبر القنوات الفضائية هي أن هذه الآراء في أغلبها موجهة للأفراد شخصاً وفكراً، وأنها تفترض سوء النية، وأنها قادرة على قراءة ما بين السطور والهدف البعيد من المكتوب، حتى إن لم يكن ذلك مكتوباً، وأنها تفترض أن المخالف عدو، وأن كل من يتفق مع المخالف عدو، وكل من لا يختلف مع المخالف ويعلن مناواته له، عدو!
أيضاً سوف نجد أن آراء تلك الفئة بكافة صورها تصدر على أساس الصورة المفترضة والمتخيلة عن الآخر لا على أساس واقع الحال والحقيقة، ودون استيعاب للرأي الآخر ومدلولاته وأهدافه الحقيقية، ودون إدراك للسياق التاريخي والبيئة الحضارية التي تربى فيها ذلك الآخر وأنتجت رأيه، ولذلك تظهر هذه الصورة العدوانية للآخر فكراً ورأياً وشخصاً وموطناً ومذهباً وعقيدة... إلخ
كما أن الاهتمام بالمحتوى الفلسفي الفكري للرأي الآخر وإمكانية فرز المفيد أو الضار منه، صار في حكم المحذور.
أما أخطر المشكلات في قراءتنا لتلك الآراء السائدة، أن الناقد يوحي للمتلقين بأنه يصدر في مواقفه عن أوامر إلهية، والخطر هو في هؤلاء الذين خرجوا من بشريتهم من فرط ثقتهم برأيهم، وتجاوزوا حدود إبداء الرأي إلى قمع كل من يخالفهم.
قرأت يوماً في مجلة ثقافية مقالا في مدح اللغة العربية وهجاء غيرها، ومن ضمن ما استشهد به الكاتب، مقال لأحد القدماء يعلن فيه أنه يفضل أن يهجو بالعربية على أن يمدح بلغة غيرها، لا أدري لماذا ؟ لكنني حينما قرأت تلك المقولة الغريبة انتابني شعور الإمام أبي حنيفة - رضي الله عنه - حينما مد رجليه.
إن معظم المشكلات التي تواجهنا لدى قراءتنا للآراء، هي تشويه الآخر والكذب عليه، لذلك نجد أن قراءتنا للآخر فرداً أو تياراً فكريا أو أمة، قراءات انتقائية مبتسرة منقوصة أشبه ما تكون بمقولة (ولا تقربوا الصلاة) ولا أدري كيف وصلنا إلى هذه الحالة من التعامل مع الآخر مع أن ديننا ينهانا عن ذلك نهياً شديداً.
أنظروا كيف نصور الغرب وشعوبه، فهم منحلون متخلفون تافهون، فيهم كل نقيصة، والغريب ألا أحد يجيبنا: إذاً لماذا هم الأول والثاني والثالث، ونحن المسلمين في آخر الركب وفي ذيل القائمة، ليس ذلك في عصرنا الحاضر وحسب، بل إننا نعيش ذلك التخلف منذ مايزيد على ألف سنة؟
انظروا إلى صحفنا اليومية وكيف تظهر بعض التصرفات البشرية الغربية الغريبة بالنسبة لنا، مثل الحرية الجنسية، وعقوق الوالدين، والاهتمام بالحيوان، إنها لا تعرض وفق السياق الحضاري والمجتمعي القائم في الغرب، فهي حوادث في مجملها فردية لا عامة، بل تعرض على اساس أنها صفة منتشرة، وهذا غير صحيح، فتعميم الحوادث الفردية السيئة على مجمل الشعوب اقل ما يوصف به إنه عنصري، ناهيك أنه أعاقنا عن التعرف على ذلك الآخر المتقدم، وألّبنا عليه وجلعنا نحن من يبادر الى عداوة من هو أقوى وأمكن منا، وكان يجب علينا مداراته دفعاً عن أنفسنا وتفادياً للإلقاء بها إلى التهلكة.
المتابع لما يُنشر في وسائل الإعلام يجد اننا دائماً واقعون في فخ محاكمة الآخر، وهذه المحاكمة لا تستند للأسف إلى الموضوعية أو أدوات التحكيم المتوازنة، فليس في اعتباراتها المعايير الحضارية الأخلاقية للشعوب الأخرى، كما أنها لا تضع نفسها في بنود المقارنة من خلال المعايير السلوكية والأخلاقية المشتركة، كالالتزام والأمانة والنزاهة والنشاط والإنتاج والحفاظ على الوقت، ذلك أن تلك المعايير التي تتفق على صحتها كافة الشعوب البشرية، هم يتفوقون فيها علينا ايضاً، وهذا شيء ظاهر ومعروف وليست فيه مجادلة أو مكابرة.
الغريب انه حتى الدعوة إلى دراسة الآخر، تصدر تحت مظلة (فضح) ممارسات أو مخططات الآخر، وليس دعوة للتعرف الحقيقي على ذلك الآخر.
لقد تم تشويه الآخر (غربي أو شرقي) بشكل مؤثر بل ومدمر في بعض جوانبه، لذلك أصابنا خلل كبير في إدراكنا وفهمنا له، كل ذلك صاحبه تصور عدواني مسبق اوجد مناخاً وبيئة قابلة لتلقي المعلومة الخاطئة أو المحرفة أو حتى المزيفة عن ذلك الآخر، شملت اختلاق القصص وتفسير الأحداث بشكل مختلف، حتى أصبحنا نرى في أي نشاط أو عمل أو رأي من الآخر انه شر مستطير يقصد به تفتيت أوطاننا ومحو لغتنا وتحريف ديننا وإفساد أخلاقنا.
إننا نعاني نظرة (الغرب والشرق) الخاطئة لنا، ومع هذا لم نحاول نحن أنفسنا أن نصحح نظرتنا لذلك (الشرق والغرب)، وإذا كنا نردد بإعجاب بيت الشعر الحكيم:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيمُ |
إلا إننا للأسف لم نطبق ذلك على واقع حالنا، ولذلك حديث آخر.
|