لا يكاد يمر يوم إلا ونقرأ أو نسمع أو نشاهد شيئاً ذا علاقة بالفقر ومضاعفاته، وقد أصبح الشغل الشاغل لحكومات ومجتمعات دول العالم سواء كان المتقدم صناعياً أو النامي، ولأجله عُقدت وما زالت تُعقد الندوات والمؤتمرات المحلية والعالمية. واتُّخذ علاج الفقر ومكافحته شعاراً للحملات الانتخابية في العديد من دول العالم، وأسلوباً لتسويق البرامج الانتخابية وكسب ملايين الأصوات حتى في أكثر دول العالم غنًى، ووفر لعدد من الحكومات مادة لا ينضب معينها لحملات دعائية أصبحت هي ذاتها أحد أسباب الفقر.
والحقيقة التي يعرفها كل أحد أن الفقر لا يمكن علاجه بالشعارات ولا بالحملات الدعائية، ومع ذلك هناك إصرار واضح على انتهاج هذه الأساليب لما في ذلك من تحقيق لمآرب وأهداف شخصية لا علاقة لها بالمشكلة أساساً. وتحول فقراء العالم إلى مطية يستخدمها مَن يستطيع للوصول إلى مبتغاه بدون أن يدركوا ذلك، وربما أدركوا لكنهم لا يتمكنون من رفض هذه الممارسات، إما لفرط حاجتهم أو ضعفهم.
وربما تفوق ما يقدمونه من خدمات لمَن يستخدمهم على ما يحصلون عليه من إعانات في ظاهرها أنها مساعدات تعينهم على التغلب على مشكلتهم.
فمن المألوف أن نرى على شاشات التلفزيون أو في صفحات الجرائد عرضاً يدور موضوعه عن الإنفاق على علاج مريض فقير أو مجموعة مرضى، ومما يؤسف له أن يصل الأمر إلى حد الإذلال والامتهان والمنة والاستغلال لظروف هذه الفئة، ويصبح الأمر أكثر إثارة للاشمئزاز حينما تقدم لعائلة ثلاجة أو غسالة من ماركة معينة أو وكيل معين، وتعقد لذلك البرامج التي تصور العائلة فرحة بمقدم هذه الثروة المفاجئة والتي تستوجب شكر واهبها مرات عديدة مع إبراز اسمه وشركته والعلامة التجارية للمنتج وعناوين المحلات التي تبيعها، ولم يبق إلا التنويه عن وجود عروض خاصة أو تنزيلات خلال مدة التبرع. ويكمن الإشكال في تصوير هذه الممارسات على أنها حل لمشكلة الفقر.
أتوقع -بناءً على ما سبق- أن الفقراء في مجتمعاتنا لم يكونوا كذلك إلا لأنهم لم يتمكنوا من استغلال ما وهبهم الله من إمكانات وقدرات الاستغلال الأمثل، ولم يوظفوا مدراء أعمال أكفاء يتقنون فن التفاوض. ولنتصور -على سبيل المثال لا الحصر- العائد المادي والمعنوي الذي تجنيه الجهة التي تتكفل بعلاج مريض، وسيكون العائد مضاعفاً للمستشفى وللطاقم الطبي وللمجتمع حينما يكون المرض نادراً، أو يستخدم في العلاج أساليب جديدة. ولو وازنَّا بين حجم المنافع التي يتحصل عليها المريض وتلك التي يوفرها لوجدنا البون شاسعاً.
إن الحرب ضد الفقر لا تكون بالشعارات والحملات الدعائية واستغلال حاجة الفقراء لتحقيق مكاسب معينة، بل إنها تبدأ من صياغة أنظمة وقوانين تقضي على أسبابه وتتعامل معه في حال وجوده، هذه القوانين تجعل دعم الفقير وإعانته حقاً ثابتاً له وليس منة وليس في مقابل خدمة يؤديها أو يقدمها، فبدلاً من إعطائه جهازاً كهربائياً واستغلاله أمام شاشات التلفزيون وإذلاله أمام أقاربه ومعارفه، وإن لم يقدم هذه التنازلات فلا شيء، يصبح الحصول على هذا الجهاز حقاً له بموجب القانون.
يجب القول إنه لم تعد في وقتنا الحاضر حلول الترضية لمشكلة الفقر مقبولة للوفاء بالالتزامات التي تفرضها التوجهات المعاصرة وقبلها القيم والمعتقدات لحل هذه المشكلة، بل لا بد من وجود شيء ملموس على مستوى الأنظمة والقوانين يضمن للفئة الأضعف في المجتمع الحصول على مستوى معيشي ملائم والمطالبة به، ويلزم المجتمع ومؤسساته بتوفير هذا المستوى لمَن يحتاجه.
|