بعد الاستفتاح بما هو خير.. اقول إنني تابعت، كما تابع الكثير من القراء المقال الإعلاني الذي كتبه ونشره الأستاذ عبدالرحمن بن صالح الشثري في صحيفة الجزيرة بتاريخ 25 يناير 2004، تعقيباً على مقال سبق أن كتبته في (الاقتصادية)، (عدد يوم الاربعاء 22-11-1424هـ) تجاوباً مع الفكرة الرائدة في العمل الخيري التي تبنتها جمعية الأمير فهد بن سلمان لرعاية مرضى الفشل الكلوي، حيث وقعت مذكرة تفاهم مع وزارة الصحة وهي المذكرة التي حظيت بتأييد ودعم جميع القطاعات الصحية في المملكة (القوات المسلحة والحرس الوطني وقوات الأمن العام ومستشفى الملك فيصل التخصصي ومستشفى الملك خالد الجامعي)، وتهدف هذه المذكرة إلى ضبط تبرعات أهل الخير والتنسيق فيما بينها وتوجيهها لأجل تعظيم أثرها لصالح مرضى الفشل الكلوي، وقد هبّت الجهات الصحية للتعاضد مع الجمعية بعد أن رأت كيف تاهت وضاعت جهود وتبرعات أهل الخير، حيث أصبح لدينا الكثير من المراكز والوحدات، ولكن بقيت الإشكالية الكبرى معلقة وهي: إمكانية التشغيل الطبي (الكوادر الطبية والتمريضية والفنية والأدوية والمستلزمات من محاليل ومستهلكات) والتشغيل المساند من إداري وخدمات أخرى من إخصائي اجتماعي ونفسي وصيانة.
وللحقيقة أقول: إن تعقيب الأستاذ الشثري زاد قناعتي ورفع درجة ألمي.. قناعتي بعدم دراسة جدوى هذه التبرعات وهل حققت أهدافها التي يتطلع إليها المحسنون؟!، فبدلاً من فتح مراكز جديدة للغسيل الكلوي كنا وما زلنا بحاجة لتقييم مدى استفادتنا من المراكز القائمة حاليا وبحث امكانية زيادة ورفع كفاءة التشغيل لتقل الكلفة للغسلة الواحدة (فالمركز أشبه ما يكون بالمصنع فكلما زاد الإنتاج انخفضت التكلفة لوحدة المنتج).
أما ألمي فقد زاد عندما عرفت حجم تبرعات أهل الخير التي استعرضها الأستاذ الشثري، وهي تبرعات تضاف إلى ما تصرفه الدولة على جميع القطاعات الصحية حيث توفر أجهزة الغسيل ومستلزماتها، فهذه الإمكانات تؤكد أن البنية الأساسية للخدمات موجودة، وهذا ما عنيته، وهو ما سخر منه الأستاذ الشثري عندما قال: (بأي منطق يدعي الأستاذ عبدالوهاب الفايز فوضوية هذه التبرعات وأنه لم يكن هناك نقص في المراكز والأجهزة).
نعم.. إنني ما زلت أعتقد أنه لم تعد أجهزة الغسيل هي المشكلة الأساسية وإنما المشكلة في إمكانية ديمومة التشغيل الطبي المساند لهذه الوحدات، إنها فوضوية تدعو للألم، فكيف نجد لدينا كل هذه الإمكانات من الأجهزة ونظل نسمع عن معاناة مرضى الفشل الكلوي الذين يطوون الأرض بحثا عن مراكز للغسيل الكلوي، وقد تكون قريبة منهم وهم لا يعلمون، أو تكون قريبة منهم ولكن الأجهزة لا تعمل لغياب التشغيل الحقيقي (أي الكامل)، أو تكون قريبة منهم ولكن طابور الانتظار طويل.. طويل، الا يدعو للألم أن نجد أموال اهل الخير تبذل في مراكز ثم تنتهي معطلة، لأن تكاليف التشغيل غير متاحة، ولأن احداً لم يأت لينظم التبرعات ويوجه جزءا منها للتشغيل والصيانة وتأمين المحاليل والأدوية للمراكز القائمة.
أيضاً، عندما تحدثت عن التبرعات كنت أشير إلى جزء من إشكالية مرضى الفشل الكلوي، والذي نعرفه هو أن هناك الكثير من الإشكالات الأخرى الرئيسية والتي تتطلع جمعية الامير فهد بن سلمان إلى التصدي لها، مستعينة بتبرعات وجهود أهل الخير الذين يتطلعون إلى وجود مؤسسة تتولى التنسيق والتوجيه والتنظيم لتبرعاتهم المادية والمعنوية بمشاركة المختصين والمهنيين.
والجهود المرتبكة لأعمال الخير والتي نجد صورة منها في مجال رعاية مرضى الفشل الكلوي هي التي جعلتني (أحتفي) بالجهود الجديدة التي أطلقتها جمعية الأمير الإنسان الكبير الراحل فهد بن سلمان - رحمه الله - لأننا نسمع ونعرف عن حجم معاناة المرضى، وهذا الوضع هو الذي جعلنا ايضا ندعو لدعم استثمارها حتى لا (يعزف) أهل الخير عن دعم مرضى الفشل الكلوي عندما يتداعى إلى سمعهم أن تبرعاتهم لا يستفاد منها وأنها تحولت إلى أطلال!.
هذا هو الدافع من إثارة الموضوع، وهو ما فهمه الأستاذ الشثري بشكل مغاير، والذي يرى - أو فهم - أنني مع غيري، (نحاول التشكيك في جدوى هذه التبرعات) لمجرد التشكيك و(لتثبيط الهمم) ودفع أهل الخير بعيدا عن الإقدام على البر وعمل الخير، وهنا كنت أتمنى لو أن والدنا وأخانا الحبيب الأستاذ الشثري، الذي نكنّ له كثيرا من الاحترام والتقدير نظراً لجهوده الإنسانية المشهودة في خدمة مرضى الفشل الكلوي، كنت أتمنى لو أنه تجاوز هذا الرأي أو (الظن) الذي فهمه البعض بشكل سلبي، فهل يعقل أن يأتي إنسان لديه قوى عقلية ونفسية اعتبارية، حتى في حدودها الدنيا، ليشكك في أعمال الخير ويكون همه التشهير فيها وفيمن يتصدون لها.. هذا جنون بالطبع!
عندما قلت إن لدينا فوضى في مفهوم عمل الخير الموجه لخدمة مرضى الفشل الكلوي.. فقد عنيت ما وصفت، وكلنا نعرف اننا كدولة وكمجتمع نعيد ترتيب وتنظيم أعمال الخير، ومنذ سنوات بعيدة طفق أصحاب الخبرة والعلم، ممن يغارون على حسنات المؤمنين، يدعون إلى ضرورة توجيه نزعتنا الإنسانية العظيمة الفطرية لعمل الخير، فنحن في مجتمع أعطاه الله النعم وأعطاه حب الإنفاق في سبيله، وكان الكثيرون يتسابقون الى حصر تبرعاتهم في المجالات العينية الحسية، فقد كان هذا هو الخطأ الذي وقعنا به، ومن حسن الحظ أن أصحاب الفضيلة العلماء والمشايخ هم أول من تصدى بالحكمة والموعظة الحسنة إلى إيضاح أهمية توجيه التبرعات إلى فضاءات الإحسان والحاجات الواسعة للناس في الصحة، التعليم، الإسكان، ورعاية الايتام والأرامل.., وغيرها في الداخل قبل الخارج، وحتى يعطى هذا الموضوع بعده الوطني ليشعر كل واحد منا بمسؤوليته تجاه العمل الخيري، قبل عامين رعى سمو ولي العهد - حفظه الله - لقاء الجمعيات الخيرية الذي كان مخصصاً للتباحث بشأن رفع كفاءة العمل الخيري والقضاء على سوء إدارته، أي: (الفوضى)!!
وربما الهبة الكبرى التي لمسناها في السنوات الأربع الماضية لدعم مرضى الفشل الكلوي عبر إنشاء المراكز، هي استجابة عملية لمدى وعي الناس وقناعتهم بتوسع ساحة عمل الخير وهنا يجب أن اشير إلى أن استاذنا الكبير عبدالرحمن الشثري تطوع كثيراً لاستقطاب نفقات المحسنين لدعم مرضى الفشل الكلوي بحكم عمله نائباً لأمين عام الجمعية الخيرية لرعاية مرضى الفشل الكلوي، (وهو أيضا عضو مجلس إدارة) والتي يرأس مجلس إدارتها سمو الأمير سلمان بن عبدالعزيز، واستمرت عضوية الأستاذ الشثري في مجلس الإدارة بعد تعديل نظام الجمعية التي حولت لتكون (جمعية الأمير فهد بن سلمان)، تثميناً وتخليدا لدوره في خدمة المرضى، والأمير الراحل لو شاءت إرادة الله سبحانه وتعالى أن يبقى بيننا ينشر الحب والخير لكان صاحب اليد الطولى في رعاية مرضى الفشل الكلوي.
وحتى الأستاذ الشثري، هو وغيره من الكثيرين المخلصين في عمل الخير الذين نعرفهم والذين يختفون احتساباً للأجر والثواب، حقهم علينا أن ندعو لهم في ظهر الغيب وواجب علينا أن ندعو للأستاذ الشثري أن يمده الله بالصحة والعافية ليواصل مساعيه النبيلة، وأبو هشام نموذج وطني يجب أن نحتفي به، خصوصا في هذه المرحلة حيث نتطلع إلى إيجاد ثقافة جديدة في مجتمعنا وهي (ثقافة العمل التطوعي الخيري الإنساني)، فهذا هو أساس المجتمع المدني، وهو الأهم من الانتخابات، وهو الأهم من التسابق إلى المناصب أو المكاسب الدنيوية الزائلة، والناس عيال الله، وأحب العباد إلى الله خيرهم لعياله.
ثمة واقع أود أن أدفع أطراف اصابعي قريباً منه لأنه يؤلم.. وهو يدعم ما ذهبت إليه من فوضوية التبرعات لمرضى الفشل الكلوي، ففي الواقع هناك الكثير من أجهزة الغسيل المعطلة، (ليست معطلة في ذاتها وإنما لم تشغل في أماكن ولم تشغل بالطريقة المثلى في أماكن أخرى)، فمثلا في مركز الملك فهد في مجمع الرياض الطبي (الشميسي) هناك ما يقارب 104 وحدات وما يشغل منها ويستفاد منه ربما نصف هذا العدد، وهناك 100 وحدة تبرع بها المحسنون لمركز الأمير سلمان، وهي الأخرى لم تستثمر لعدم وجود برنامج متطور للتشغيل والصيانة، وهذان مثالان من عشرات الأمثلة للمراكز التي لا تعمل كما يتوقع المحسنون، ووزارة الصحة لديها الخبر اليقين الذي يؤكد ما ذهبت إليه، وهو أننا لا نعاني من نقص في عدد الأجهزة.
لقد حققنا في السنوات الماضية قفزة نوعية في بناء المراكز، ولكن تبقى المعضلة الكبرى محصورة في عدم إمكانية استمرارية تشغيلها وفي توسيع مفهوم الخدمة لتشمل الرعاية الصحية، الاجتماعية، والنفسية، والمختصون يؤكدون أن (ماكينة) الغسيل وحدها لن تحل مشكلة مريض الكلية إذا لم تتوافر جميع المقومات لرعاية المريض قبل وأثناء وبعد الترشيح الدموي، ويؤكدون ايضا على أن التحدي هو في توفير الموارد للتشغيل، فمثلاً المركز الذي يكلف إنشاؤه (مليون ريال) ليوفر عشر ماكينات ليخدم 60 مريضاً، يحتاج إلى ما يقارب خمسة ملايين ريال سنويا، وهذا للغسيل فقط، وتقفز التكلفة الى حدود ثمانية ملايين ريال سنوياً، إذا اضيفت الأدوية، وترتفع المتطلبات إذا أضفنا تكلفة دخول المريض لاستشارات داخلية في المستشفى، أو التنويم أو غير ذلك.. فهذا يؤكد أن الإنشاء وحده لا يوازي شيئاً بجانب تكاليف التشغيل، فإذا كان التبرع لعشر وحدات غسيل لا يتعدى مليون ريال، فإن تشغيل هذه الوحدات التشغيل الأمثل لا يقل عن ثمانية ملايين ريال.
وبما أن المقال الذي كتبته عن الفوضى في مفهوم التبرعات الخيرية لمرضى الفشل الكلوي كان يتناول مذكرة التفاهم بين جمعية الأمير فهد بن سلمان ووزارة الصحة، فأرجو أن يعذرني القائمون على الجمعية للعودة إليها مرة أخرى، لأقول إن ما تسعى إليه الجمعية هو امتداد للدور الذي تتصدى له مؤسسات الدولة لتوجيه العمل الخيري، فمثلاً تبرعات المساجد أخضعت إلى تنظيم عملي وزع صدقات وتبرعات المحسنين بشكل منظم، فوجدنا أن المساجد ظهرت من بطون الأحياء إلى الشوارع الرئيسية وهذا عظم فائدتها وعزز الطابع الإسلامي لمدننا، ولذا فإن الجمعية تقريباً تتبنى هذا التوجه فهي تسعى لتحسين وتطوير ورفع مستوى الأداء المقدمة لمرضى الفشل الكلوي من خلال تنظيم التبرعات العينية والنقدية لضمان ديمومة عمل كل مراكز غسيل الفشل الكلوي على أكمل وجه حتى تؤدي رسالتها الإنسانية.
وبخصوص جانب أشار إليه الأستاذ الشثري وهو أن الذين سعوا في سبيل جمع التبرعات لمرضى الفشل الكلوي كانوا (ينسقون) مع وزارة الصحة.
هنا أقول إن التنسيق الذي تحدث عنه الشثري في مقاله ربما لم يكن بالكفاءة التي تتطلبها مفاهيم الرعاية الشاملة لمرضى الفشل الكلوي، ولو كان هذا التنسيق بالصورة التي ترضى عنه الوزارة، بمفاهيمها وطموحها الجديد، لما بادرت بتوقيع مذكرة التفاهم مع الجمعية، وهي المذكرة التي دعمتها ايضاً القطاعات الصحية الرئيسية في المملكة، وبالنسبة لمذكرة التفاهم التي جمعت أطراف الرعاية الصحية، عمل على صياغتها فريق متخصص من الأطباء والمسؤولين والمستشارين القانونيين، وأجزم أن المصلحة العامة للمرضى واستثمار تبرعات المحسنين كانت هي وقود جهودهم التي أثمرت عن هذه الخطوة المهمة، وعموماً.. هنا أود توجيه سؤال وهو: بما أن الأستاذ الشثري عضو في مجلس إدارة الجمعية وله اهتمامه بهذا الجانب، إذن أين المشكلة في اقدام جمعية - هو عضو فيها - لأن يكون لها الدور الفاعل عبر هذه المذكرة التي هي آلية تحقق لكل المهتمين مواصلة جهودهم الخيرة لخدمة مرضى الفشل الكلوي؟
أجزم أن ما قلته لا يقلل من قيمة التبرعات للمحسنين ولا حجم تبرعاتهم وإنما هي دعوة للترشيد والاستخدام الأمثل للموجود من الموارد المتاحة، وما قلته هو رغبة في تحقيق أهدافهم الخيرة وديمومة الأجر لهم بإذن الله تعالى والدعوات الصالحة لهم مع كل غسلة من غسلات المحتاجين من المرضى.
فالمقال كان حول مفهوم التبرعات وفوضى فهمه، وليس المقصود فوضى التبرع ذاته، وإنما كل ما يمكن أن نقوله هو أننا نكن لهم التقدير والاحترام والرجاء من الله ألا يحرمهم الأجر.
مرة أخرى تحية لأستاذي عبدالرحمن الشثري على مبادرته لإثارة هذا الموضوع، وأضم صوتي إلى صوته في دعوته لزملائي وأساتذتي رؤساء التحرير لبحث هذا الموضوع الوطني، وأقترح أن تكون هناك زيارات ميدانية للمراكز القائمة لمعرفة أوضاعها التأسيسية وبنيتها التحتية وتجهيزها وظروف تشغيلها، ومدى فاعلية استغلالها ومردودها على مرضى الفشل الكلوي، وبالتالي مردود الأجر للمحسن والمتبرع بإذن الله، وكل ما نرجوه - بالطبع - هو أن تكون محققة للأهداف الإنسانية التي يتطلع إليها المحسنون، وكل عام والجميع بخير.
*رئيس تحرير جريدة (الاقتصادية) |