Tuesday 10th February,200411457العددالثلاثاء 19 ,ذو الحجة 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

دفق قلم دفق قلم
وقفة مع حبِّ الوطن
عبدالرحمن صالح العشماوي

يضطرب بعض الناس في تحديد موقفه من (حب الوطن)، ويعتقد أنَّ حبَّ الوطن لا ينسجم مع حبِّ المبدأ، وشمولية النظرة الى الكون والحياة والإنسان، وينظر الى الذين يتحدثون عن حبهم لوطنهم نظرة فيها شيء من استنكار، ويرى أنَّ (الوطنية) دعوة حديثة أراد بها الاستعمار أن يفرِّق بين المسلمين، وأن يوجد الحدود والفواصل بينهم، وأن يضخِّم كلَّ وطنٍ في عين أهله حتى ما يرون سواه، وهكذا تصبح عاطفة الانسان نحو وطنه مجالاً للشك في نظرته الشمولية، وعاطفته نحو إخوته في الدين في الأوطان الأخرى.
هنا يوجد خَلَلٌ واضح في نظرة هؤلاء الذين ينظرون الى (حب الوطن) بهذا المنظار السلبي، ويحكمون على من يعلنون حبهم لأوطانهم بهذه الأحكام الجائرة.
هنا يوجد خلط كبير في ذهن بعض الناس الذين لا يعرفون الفرق الكبير بين (حب الوطن) والاتجاهات (الوطنية) التي سعى الاستخراب الغربي الى نشرها في بلاد المسلمين قبل سقوط الخلافة العثمانية وبعده، تحت شعار (فرِّق تسد) ومن هنا أصبحت كلمة (الوطنية) مثيرة للاستنكار لارتباطها بما أشرنا إليه، وأصبح الحديث عن (حب الوطن) مثيراً لاتهام صاحبه بما أشرنا اليه.
أين تكمن المشكلة؟
تكمن المشكلة في وجود مبالغة كبيرة في جانبي الموضوع، فهناك من يتعصَّب لوطنه تعصباً يجعله رافضاً لكلِّ ما عداه، ويدعوه الى احتقار من لا ينتمون الى هذا الوطن احتقارا يظهر في قوله وفعله.
وهناك من يبالغ في رفضه لحب الوطن و(الوطنية) مبالغة تجعله متَّهماً لكل من يعبِّر عن حبه لوطنه قولاً وعملاً بأنه متأثر بالدعوة الى الوطنية بمعناها الضيق المرفوض وتنشأ بسبب هذه النظرة الضيقة مشكلة لا مسوِّغ لها، يدركها أصحاب النظرة الموضوعية العادلة، الذين يعرفون المعنى الصحيح لحب الوطن.
وأقول: (حبُّ الوطن) مغروس في قلوب الناس وطبائعهم، ومشاعرهم موصولة بالأوطان التي ولدوا فيها، ونشأوا فيها، مهما ابتعدوا عنها وفارقوها، وهذا الحبُّ مقبول، بل هو مطلوب لعمارة الأوطان ورعايتها وحمايتها، وتحقيق الأمن والاستقرار لها، وفي القرآن الكريم اشارات واضحة الى ذلك.
فالله سبحانه وتعالى يقول: (ولو أنا كتبنا عليهم ان اقتلوا أنفسكم، أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم)، ففي هذه الآية الكريمة نلاحظ أن الإخراج من الديار قد اقترن بقتل النفس، ولولا أن ديار الإنسان التي هي (وطنه) غالية عليه لما قرن بين تركها وبين القتل بهذه الصورة الواضحة.
وفي آية أخرى يقول تعالى:(وما لنا ألاََّ نقاتل في سبيل الله وقد أُخرجنا من ديارنا وأبنائنا)، فالصورة هنا واضحة في بيان قيمة وطن الانسان عنده، وفي إقرار حبِّه لدياره، وحرصه على وطنه، وتأنيبه والتثريب عليه إذا أساء الى وطنه، أو أحدث فيه ما يفسد عليه أمنه واستقراره.
وقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه حزن لخروجه من مكة المكرمة، وأنه خرج منها خروج المضطر الذي هرب بعقيدته ودينه، وأنَّه أوضح ذلك بقوله (ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت)، وأنَّه ظلَّ عليه الصلاة والسلام طيلة السنوات التي قضاها في المدينة قبل فتح مكة، يتسقَّط أخبارها، ويُظهر أحيانا حنينه اليها وشوقه الى رؤيتها اذا سمع من أحد أخبارها.
وفي هذا الموقف النبوي الكريم ما يضع أمامنا ميزاناً واضحاً عادلاً في قضية (حب الوطن) إنَّه ميزان العقيدة، فهي - بلا شك - حياة الانسان ووطنه الأوَّل، وهي كل شيء في حياته، فلا يُقدَّ) عليها أهل ولا وطن ولا نفس، فإذا تعذَّر على الانسان المسلم أن يؤدي حقَّ عقيدته وعبادته في وطنه، وحورب في ذلك وأوذي، وعوقب على التزامه بدينه، أصبح لزاماً عليه أن يغادر ذلك الوطن مهما كان حبُّه له. ولا يصح لأحد أن يجعل (حبَّه للوطن) أساس حياته، ووسيلة التعصُّب الأعمى الذي يجعله يحتقر الآخرين، إن هذا الميزان النبوي الدقيق هو الذي يجعل التوازن في علاقة الإنسان بوطنه منهجاً يحميه من الميل والشطط.
إشارة


يعزُّ على الإنسان مسقط رأسه
ولو كان قفراً لا يُرَدُّ به صَدَى


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved