هنا يتفتق الصبح طرياً ندياً
لنبدأ العمل مع وعيد (الفورمان)
ليس مهماً الفطور
فنحن نأكل طعاماً يسخنه لهيب شمس الظهيرة التي تسلخ جلودنا..
أينك ياحبيبتي؟ أينك يا طراوة الصبح؟
الناس هنا طيبون، لكنهم لا يعترفون بنا
لا يلقون التحية.. مجرد يرمقوننا شزرا..
هل نحن نمارس خطيئة في عملنا بحفر الشوارع وترصيفها؟
وكيف يكون الغروب جافاً ومعوجاً إلى هذه الدرجة
بينما الليل يبدو طرياً وحميميا؟!
وكيف يبدو الناس اكثر رقة رغم جمود مشاعرهم تجاهنا؟!
هذه البلاد عجيبة، قاسية وأليفة في آن....
هذا مقطع من نص شعري لعامل هندي ضمنها رسالة تقطر حنيناً لزوجته، وترجمها لي ارتجالياً مثقف باكستاني يبدو أنه يتقن عدة لغات، وأعدت صياغتها بما لا يخل بمضمونها، بعد موافقة العامل الذي فضل مع المترجم عدم ذكر اسميهما.
إنها قطعة أدبية تشهد على إمكانية واسعة من الإبداعات التي لم تدر في خلدنا، يصوغها رجال ونساء أتوا من بعيد.. بعضهم من خارج الجغرافيا، من أريافهم المنسية انطلقوا، حتى تحسبهم غرباء في مدن أوطانهم. ذنبهم الانتماء لعالم سُمي ثالثا!! لم نجرب الأنسنة معهم في زمن الخرائط. لم نعر أعمالهم الإبداعية اهتماما هم ليسوا عربا ولا غربيين تتلقف إنتاجهم الإبداعي قنوات عدة. بل بشر غادروا أوطاناً لم تعد تؤويهم إلى أرض لا تفهمهم، فرانت على هواجسهم خطرات وإضاءات فيها غث وسمين، لكن من ينتقي دررها وجمالياتها.
قد لا يبدو أن في الأمر مدعاة للاكتراث خاصة فيما تمر به بلادنا من قضايا المرحلة، ولكن هل الأمر كذلك للمعنيين بالأدب والفن والتاريخ وحقوق الإنسان؟ ثمة نصوص شعرية ورسوم تشكيلية وقصص وربما روايات من بعض العمال والخادمات الذين سألتهم.... هذه الأعمال الفنية المزعومة كثير منها مشرئب بالشوق والعشق والجمال.. بعضها يتوافر على الصفات العامة للعمل الإبداعي أو ربما التوثيقي المسترسل، سنجد فيها وصفاً صادقاً لعواطف إنسانية، ونقداً بريئاً لبعض سلوكياتنا الاجتماعية بغض النظر عن صحتها من عدمه. سنجد ايضا، رصدا مهما لسلوك الأفراد والجماعات في مجتمعنا، ممتزجا مع وصف لحالات حضارية وطبيعية. كل ذلك هو ثروة فنية ومعرفية لا يمكن تجاهلها مع ما تحمله من مشاعر عاطفية وانماط فنية وتسجيلات موضوعية.
سألت راعيا هندياً أتى قبل أن يكمل العقد الثاني من عمره، ومضت به السنون ثمانية عشر ربيعا أو خريفا في الصحراء، وعلامات الكهولة ترتسم على وجهه، قال: قد تآلفت مع البيئة الاجتماعية والطبيعية، لم أعد أذكر الكثير عن بلدي الام، بل أنا أحس بالانتماء لهذه الأرض وهؤلاء البشر الذين لا أعرف غيرهم، لكن المؤذي أن الناس لا يدركون مشاعري هذه، ويصرون على التعامل معي كأنني غريب أتاهم للتو! نعم أنا لا أتقن الكتابة العربية ولكني اتكلمها، واقول الشعر مثل البدو، إنما بلغتي التي لا يعرفونها، وأصوغ قصائدي مثلما يصوغها المحليون هنا، إنما ويا للأسف لا أحد يسمعني غير هذه القطعان!
رب قائل، لماذا الاهتمام ينصب على عامل غريب في الصحراء؟ أم من أجل معنى جديد في البراري او في الجحيم فذلك لا يهم الإنسان المتحضر؟ الرمل هو ذاته في كل الصحاري، والصخر هو ذاته، وضروب قليلة من الاعشاب المتهالكة. ولكن هذا منطق تسطيحي للمكان وللحالة الشعورية لانسان جديد.. إنسان آخر قد يرى ما لا نراه. المكان يحمل ابعادا معنوية ونفسية وروحية في الذاكرة التي تقاوم النسيان وقسوة الزمان، ويحلو الإبداع عبر رؤى يختصها الفنان تشهد على الزمن، وتعيد صياغة الأيام لتتحرر من وطأة الوقت العدمي وفساد الأمكنة. فكيف إذا مزج المبدع ماتبقى من ذاكرته وتراثه مع ما الفه من تراث قوم آخرين بعيدين كل البعد عن أجداده؟ إنها إعادة لصياغة تاريخ الذات البشرية وتاريخ الأمكنة!
وفي موقع آخر حاورت فلبينيا حلاقا، طافت يداه على رؤوس أهل الرياض وحصدت منها مايربو على خمسة عشر موسما، قال انه يرسم لوحات، وأشار الى واحدة منها في محله، وكانت عبارة عن تشكيل جميل متقن، أقرب للواقعية مع لمسات فنتازية، لنخيل في اطراف المدينة بين كثبان رملية جعلت النخيل أشبه بجوز الهند منه لنخيل التمر، وجعلت الرمال اقرب لأمواج البحر (أنا أرفض أن أبيع رسوماتي، فهي مثل أولادي، فمن سيقدر لوحات من حلاق فلبيني ينقش رسومه مازجا تراثه مع اشياء مدينتكم؟ بالتأكيد سوف تهزؤون بها) هكذا قال!!
مصور أثيوبي محترف له ماينيف على عشرين عاما في الرياض، يتحدث العربية مثلما نتكلمها، يقول: أمنيتي أن أصدر كتابا تصوريا عن الرياض، فلدي مئات الصور الفنية الجميلة التي التقطتها على مر السنين, طفت خلالها كل أرجاء المدينة, وكل ذلك حبا بهذا الفن وحبا بهذه المدينة التي ترعرعت فيها, لكن أين الناشر الذي سيقبل نتاج عامل أثيوبي في استوديو، وليس معه شهادات فنية؟
إذن بين ظهرانينا أناس لديهم إبداعات ثرية، وليس جميعهم ذوي شهادات متواضعة، لمن يولع بتقييم الناس حسب شهاداتهم، بل بعضهم عالي الثقافة أو يحمل شهادة عليا، مثلا أعرف هنديا يحمل شهادة ماجستير في الهندسة الكهربائية، واخرى فلبينية تحمل ماجستير في الفلسفة، وآخر سيريلانكي إخصائي تغذية وآخر بنجلاديشي طبيب.. كلهم أتوا كعمال أو خدم!! هؤلاء عندما يكتبون عن انفسهم وعنا الا يجدر بنا الاستفادة مما يكتبون؟
عمال قدموا من أقصى بلاد الدنيا يشاركوننا تنمية بلادنا.. يبنون المنازل والمدارس والمستشفيات، فهل نتبنى نحن همومهم الإبداعية؟ يأتون مغتربين ويرممون المتهالك من مبانينا وشوارعنا فهل نرمم جراحهم العاطفية؟ يجيئون حاملين عددهم لصيانة أجهزتنا وإصلاح مراكبنا فهل نصون حقوقهم المعنوية؟ نعم، هم قدموا من أجل كسب رزقهم لكن لهم حقوقهم الأدبية ولهم فضائلهم ولديهم مايمكن أن نستفيد منه.
|