هذا العنوان صَدْر بيت من أنشودة كان يحفظها ويرددها أطفال المدارس في أقطار عربية متعددة قبل نصف قرن عندما كان هناك شعور بانتماء إلى أمة واحدة , وإن كان الاستعمار الغربي المباشر ما زال جاثما على بعض أقطارها. وكنت من أولئك الأطفال الحافظين المرددين بدأت الدراسة في مدرسة المعلم المخلص علي الشحيتان-رحمه الله- الذي كان مؤذناً لمسجد الملاح في عنيزة.
وكان كفيف البصر، لكنه كان مبارك التعليم. وبعد معرفتي شيئاً من كتاب الله الكريم على يديه، تلاوة وحفظاً، انتقلت إلى مدرسة الخال عبدالعزيز الصالح الدامغ، أمد الله في عمره على زيادة عمل صالح. وكانت هذه المدرسة الخاصة من المدارس النادرة المتطورة مقارنة بالكتاتيب الشائعة في نجد حينذاك. فإضافة إلى تدريس القرآن الكريم، تلاوة وحفظاً، كانت تدرس الكتابة، خطاً وإملاء، كما تدرس الحساب : جمعاً وطرحاً وضرباً وقسمة، والأناشيد، حفظاً وإلقاء.
ولم يكن مستغرباً من الخال عبدالعزيز أن يدرس تلاميذه أناشيد مختارة تتضمن الحث على النهضة والتقدم، وتغرس في نفوس النشء مشاعر وحدة الأمة. ذلك أنه عاش فترة في الحجاز، التي كانت نهضتها العلمية لا بأس بها حينذاك، وأن عمه - وهذا مهم - هو إبراهيم بن عبدالعزيز الدامغ، الذي كان ضمن وفد أرسله الملك عبدالعزيز إلى العاصمة العثمانية، كما كان أول من أجرى مقابلة صحفية مع ذلك الملك العظيم، الذي كثيراً ما كلفه بالدفاع عن السعوديين لدى المحاكم العراقية.
كان من بين الأناشيد التي مازال منها عالقاً في ذهني أنشودة تشير الى نهضة الغرب وتخلف العرب، وأسباب تلك النهضة وهذا التخلف:
نهض الغرب ونمنا
ومضوا هم وقعدنا
ولهذا قد خسرنا
حقَّنا بين الدول
ومنها أنشودة تتحدث عن التمسك بالثوابت:
نحن الشباب الناهضون
إلى الأمام سائرون
نعاهد الله.. على
الثبات إنَّا صادقون
محمدُ.. إمامنا
والخلفاء الراشدون
والعروة الوثقى لنا
إنَّا بها مستمسكون
أما الأنشودة الأوضح دلالة على الشعور بالانتماء إلى أمة واحدة فكانت الأنشودة المشهورة جدا:
بلاد العرب أوطاني
من الشام لبغداد
ومن نجد إلى يمنِ
إلى مصر فتطوان
فلا حدُّ يباعدنا
ولا دين يفرِّقنا
لسان الضاد يجمعنا
بقحطانٍ وعدنان
ونمت لدي تلك المشاعر الوحدوية التي غرست في نفسي خلال عهد الصبا وترعرعت، وإذا بجذوتها تتقد في أواخر الخمسينيات واوائل الستينيات من القرن الميلادي الماضي، فتبدو ملامحها في أبيات من قصائد هنا وهناك.
فهذه أبيات تعبر عن مشاعر الاعتزاز والافتخار بصمود مصر، قيادة وشعباً، امام قوات العدوان الثلاثي عام 1956م فتختتم بمخاطبة المعتدين متحدية:
لا تحسبوا شبح المنون يخيفنا
نحن الحِمام لكل باغ معطب
ان رمتم ان تستبيحوا ارضنا
فالاسد تثار للعرين وتغضب
والمارد الجبار حطَّم قيده
يهد أركان العدا ويخرِّب
وتلك ابيات تفتخر ببطولة الشعب الجزائري وتشيد بها قائلة:
هبت طلائعنا كالأسد غاضبةً
في عدوها غمغمات الموت تضطرب
تواثبت من ذرا الأدراس هائجة
في وجهها صولة الطاغين تنتحب
افواج شُوسٍ من الثوار يربطهم
بالمكرمات جلال الفعل والنسب
زفَّوا إلى الموت دون الارض أنفسهم
وعن ديانتهم أرواحهم وهبوا
وأمة العرب مازالت وما برحت
في أرضها للغزاة الموت والعطب
ثم قامت الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958م، وفرح بقيامها من رسخت في نفوسهم مشاعر التطلع الى وحدة امتهم. وما كانت الا واحداً من هؤلاء. ولذا عبرت عن مشاعري بمناسبة مرور سنة على تلك الوحدة بقصيدة مطلعها:
اشرقي يا صفحة الخلد ابتساما
قد رضيناك محلاً ومقاما
ومنها:
يا روابي الخلد حيِّي أمة
شغفت بالوحدة الكبرى هياما
أمَّة زفَّت إلى هام العلا
وحدةَ رفَّت على القطرين عاما
يخفق النصر على آفاقها
باسم الثغر طروباً مستهاما
نفحات النيل هزَّت بردى
فمضى يلقي على النيل الخزامى
والتقى الإخوان من بعد النوى
ودموع البشر تنهل انسجاما
على أن تلك الوحدة ما لبث ان انفرط عقدها نتيجة عوامل من اهمها سوء ادارة قيادتها لأمورها، وسعي فئات حزبية لتحقيق مصالحها الخاصة على حساب المصلحة العليا. ومع انه كان لصدمة الانفصال ما لها من اثر في النفوس العربية، التي ترى في الوحدة عاملاً من عوامل قوة الأمة امام اعدائها، فإني لم استسلم لطيف اليأس حينذاك.
ومن هنا جاءت هذه الابيات ضمن احدى قصائدي:
كفكف دموعك في محاجرها
فالفجر لن تغتاله الظُّلَمُ
والقلب لا ينسب إلى دمه
بأس يكبِّله ولا سأم
ومنها:
يا للمنى والفجر في أفقي
متموج الاشراق محتدم
أرنو فأبصر في طلائعه
حمماً تفجر نارها حمم
وثَّابة الخطوات زاحفة
للمجد.. للتحرير تقتحم
وأرى الحمى الدامي يعانقها
لثماً ويبسم للشهيد فم
والوحدة الكبرى يرفُّ لها
في كل ساح حرَّة علمُ
غير ان ذلك التفاؤل لم يكن في محله. فقد تدهورت الاحوال شيئاً فشيئاً حتى بلغت من السوء مبلغاً جعلت الأمة أبعد ما تكون عن تحقيق آمال المتطلعين الى وحدتها.
اما بعد:
فأراني استطردت كثيراً في الكلام حول المعنى المراد اساساً من صدر بيت الانشودة الذي جعلته عنواناً للحديث عن الجانب الحسي منه، وهو ما جرى وشاهدته في زيارتي لليمن، مهد الحضارة المعتز بها، ونهر إبداع الشعر المتدفق. وهذا ما سأبدأ به الحديث في المقالةالقادمة إن شاء الله.
|