* مكة المكرمة - أحمد الأحمدي:
دعا وزير الأوقاف السوداني إلى اجتماع الأمة الإسلامية على الحق.. وإلى التعامل مع الغرب وفق رؤية حضارية.. وان نقرَّ بالتعددية.. ونسلّم بالأخوة الإنسانية.. وأن ننقد أنفسنا، ونصوّب مسيرتنا، ونحاور ذواتنا، قبل حوارنا مع الآخر..
جاء ذلك في المحاضرة القيّمة التي ألقاها معالي الدكتور عصام الدين أحمد البشير، وزير الشؤون الدينية والأوقاف بجمهورية السودان، ضمن النشاط المنبري لنادي مكة الثقافي الأدبي.
التقديم
قدّم هذه الأمسية معالي الدكتور راشد الراجح رئيس نادي مكة الثقافي الأدبي، مشيداً بمكانة المحاضر، ومنوّهاً بموضوع المحاضرة, ومحذراً من الهجمة الشرسة التي تتعرض لها الأمة الإسلامية من أعدائها وإلى ضرورة أن يثبت المسلم على الحق ولا يتزعزع عن العقيدة الصافية التي تستند إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم..
وقال معاليه: إن الغرب ليس شراً كله، وليس خيراً كله.. وتعاملنا معه مباح على ألا يؤثر على عقيدتنا وثقافتنا وثوابتنا..
المحاضرة
ثم ألقى الدكتور عصام البشير محاضرته (نحن والغرب)..محدداً مفهوم المصطلح.. فمن نحن؟
يقول الدكتور عصام البشير: (نحن أمة الإجابة التي آمنت بالله ربّاً، وبالإسلام ديناً، وبالنبي محمد رسولاً وهادياً إلى صراط مستقيم..
ويشير معاليه إلى أن منا السابق في الخيرات، ومنا المقتصد، ومنا الظالم لنفسه..
أما غرب الحضارة فيرى المحاضر أنه ولادة أصول ثلاثة:
1 - المسيحية الكاثولوكية في الجانب الأخلاقي.
2 - القانون الروماني في السياسة والدولة.
3 - الإغريق في الفنون والآداب.
هذه الأصول الثلاثة تفاعلت وتطورت وأنتجت شريحة غلب عليها الإباحية في النسق الاجتماعي، والنفعية في البناء الاقتصادي بيد أنها انتهت إلى قوة سياسية ضاربة وكذلك اقتصادية، تستند إلى أرضية صلبة من التقدم العلمي والتقني..
وهي كذلك ليس كتلة واحدة، فهنالك الغرب الشعوب، وهنالك الغرب صناع القرار، وهنالك الغرب النخب المؤثرة، وهنالك الغرب العلم التجريبي، وهنالك الغرب المؤسسات الاقتصادية والتشريعية والقانونية والفكرية والاجتماعية.
مواقف
وقال الدكتور البشير: هذا المفهوم بالنسبة للحضارة الغربية انقسم المسلمون إزاءه إلى تيارات في نمط التعامل معه.. فكان منهم التيار الانبهاري، والتيار الانتحاري، والتيار الاشتجاري، والتيار الانكفائي، والتيار الحضاري..
التيار الانبهاري الذي وجد في الحضارة الغربية بغيته ومأموله ومرتجاه.. رفاهة في الإنسان واستقراراً في النظم السياسية، وعطاء في العلوم والمعارف.. وقد التمس أصحاب هذا التيار تحت شعار الحداثة والتجديد اللحاق بركبه، وان كلفهم هذا اللحاق التخلي عن هويتهم الثقافية، وخصوصيتهم الحضارية، والجذور التي قامت عليها هذه الأمة.. وهذا التيار يجد من وسائل الإعلام وفي قنوات الفضاء وفي منابر التعبير ما يجعله الأعلى صوتاً.
وينظر أصحاب التيار الانتحاري إلى الغرب باعتبار أنه العدو الذي يتربص بنا الدوائر، ويرمينا عن قوس واحدة.. وليس في سبيل أمامنا إلا العداء السافر له، وان نشهر في وجهه سيف القطيعة البائنة..
أما (التيار الاشتجاري) فلا يؤمن بالقواسم المشتركة، ويركز على مناطق الاختلاف، ويجعل هذه المناطق في دوائر الدين والدنيا، هي المعترك الذي تنطلق منه العلائق وتؤسس منه مواطن الفكر في العلاقة بيننا وبين الغرب.
ويرى أصحاب التيار الانطوائي والانكفائي ان الغرب الذي انطلق من فلسفة مادية تعامل مع عالم الكون المشهود ونسي عالم الغيب المستور، فليس لنا من سبيل إلا ان نستدعي تراثنا وحضارتنا.. فهم يعيشون في التاريخ، ويجعلون أنفسهم صبية للماضي والاقتصار عليه..
وأيّد الدكتور البشير أصحاب التيار الحضاري الذي يعبّر عن روح الشريعة، وعن مقاصدها الكليّة، وعن نصوصها الجزئية، وعن محكماتها القطعية.. هذا التيار يرتبط بالأصل، ويتصل بالعصر, يرعى ثوابت الشرع، ويدرك متغيّرات العصر..
وقال المحاضر: إن التيار الحضاري صنعته وتفاعلت معه حضارات، وان الحضارات التي تأسست على إرث إنساني هي كتاب مفتوح نأخذ منه وندع.. وهذا التيار الحضاري يؤمن بقضية (التدافع)، وهي غير الصراع (عملية حراك).. ويدرك بأن الغرب ليس كتلة واحدة، فالغرب الشعوب لا إشكال بيننا وبينها، بيد انها ضلّلت بالآلة الإعلامية الهائلة التي شوّهت جمال الإسلام وحقائقه العظمى.. ومتعيّن علينا، نحن أمة الإجابة، أن نصحح هذه الصورة المغلوطة على المستوى النظري والعملي.
وأوضح المحاضر أن (مشكلتنا مع الغرب "المشروع الذي يقوم على الهيمنة والتسلط".. المشروع الذي يقوم على أساس حضارة كونية مركزية لا تعترف بغيرها من الحضارات، ولا بغيرها من الخصوصيات الثقافية ولا الهوية الفكرية.. يريد أن يفرض هيمنته الثقافية، ونظامه السياسي، ومنهاجه الاقتصادي، وعطاءه الاجتماعي، ورؤيته الحضارية.. مشكلتنا مع قوة التسلط والهيمنة التي تريد ان تبسط رداءها على البشرية كلها.. هذا المشروع الذي تحالفت فيه العلمانية الغربية مع المشروع التنصيري، وركبا موجة واحدة، مستغلين في ذلك ضعف الأمة وتفرّقها من جهة، فحققوا حالة الاستقواء.. ومتخذين الأرضية الصلبة من التقدّم التقني والعلمي، مع ما حققوه من إنجازات أخر وطرحوا به هذه (العولمة) التي ليست بحال هي العالمية، فالعالمية هي من خصائص ديننا، ولكن (العولمة) تعني قصر الآخرين وصهرهم في بوتقة واحدة..)
التعددية
ودعا الدكتور عصام البشير إلى (التعددية) فقال: في هذا السياق الحضاري بعيداً عن تيار الانبهار والاستلاب.. وبعيداً عن تيار الانطواء والانكفاء، والجمود والتقوقع.. وبعيداً عن الانتحار والاشتجار.. نقر بأن التعددية الدينية والحضارية، والثقافية والتشريعية هي من منطلقاتنا في التعايش مع الآخر..
ذلك أن الاختلاف بين بني البشر (عقائد ولغات، ألسنة وأفكار)، هو من الآيات الدالة على كمال قدرة الله عز وجل، ولو شاء الله لجعل الناس على نمط واحد..
والاعتراف بالتعدّدية واقعاً لا يستلزم الإيمان بصحة من خالف دين الإسلام.. لكن نتعامل مع التعدّدية الدينية المنطلقة من مبدأ نفي الإكراه في المعتقد والتعبّد (لا إكراه في الدين)، (لكم دينكم ولي دين(وقال الوزير السوداني: الإيمان بالتعدّدية يستلزم حواراً.. والحوار قيمة أصيلة وليس قيمة عرضية.. هو سبيل البلاغ، وهو سبيل توصيل رسالتنا إلى الآخرين.. وهو سبيل الأنبياء والرسل في الدعوة إلى الله، عبروا عنه في صورة (البلاغ المبين..)
وبيّن الدكتور البشير أن الحوار، الذي هو سبيل التعامل مع التعددية، يقتضي البحث عن القواسم المشتركة الجامعة، والبدء بالمتفق عليه قبل المختلف فيه، وهذا منهج القرآن الكريم (تعالوا إلى كلمة سواء..)
وجدّد معاليه أسس العلاقة مع الآخر، الذي يمكن أن نقيم في ضوئها حوارنا معه.. وهي:
أولاً: التسليم بوحدة الأصل الإنساني (كلكم لآدم وآدم من تراب).
ثانياً: التسليم بالأخوة الإنسانية.
ثالثاً: التكريم (ولقد كرّمنا بني آدم).. والتكريم لمطلق البشر بصرف النظر عن دينهم ومعتقدهم..
رابعاً: التعارف (إنما خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا).. والتعارف يستلزم السلام والعيش المشترك، كما يستلزم نمطاً أخلاقياً يقوم على مبدأ البر والقسط، وهما أصلان جامعان..
خامساً: التعاون (وتعاونوا على البر والتقوى)، والدليل على مشروعية التعاون بشرط الخيرية والنفع والصلاح والإصلاح (حلف الفضول) الذي يقوم على نصرة المظلوم والضعيف وردع الظالم.
أسس الحوار النافع
وتساءل المحاضر: نحن نعترف بالآخر فهل يعترف الآخر بنا؟ نحن نمدّ يدنا للحوار والتعاون على البرّ والتقوى، ولتبادل المصالح ولتحقيق الأمن والسلم الدوليين، فهل تعاملنا القوى المهيمنة والمتسلطة في الغرب بمثل هذا؟
وأوضح الدكتور البشير أن الحوار النافع والحضاري يقوم على شروط وأسس منها:
1 - الاعتراف المتبادل بحق أمتنا في أن تعيش.. وعلى الغرب أن يعترف بأن ثمة حضارات قائمة ومن حقها ان تعيش ومن حق الأمة الإسلامية ان تعتز بهويتها الثقافية، وبخصوصيتها الحضارية.. ومن حقها أن تحدّد لنفسها ولذاتها الخيارات التي تؤمن بها في منهاج الحكم وفي سياسة الاقتصاد وفي حركة الإعلام وفي مناهج التعليم.. وأن تصوغ الحياة وفق رؤيتها العقدية والشرعية والحضارية.
2 - على القوى المتسلطة في الغرب أن تكفّ عن الصاق التهم الزائفة بالإسلام.. من تخلّف وإرهاب وغيرها.. وألا تحمّل الإسلام وزر أخطاء من ينتسب إليه..
وبيّن المحاضر معنى الإرهاب من ترويع للآمنين وسفك للدماء، واستباحة الأموال والأعراض.. وفرّق بينه وبين الجهاد المشروع ومقاومة محتل الأرض، مغتصب العرض..
وأكد معاليه أن تجفيف منابع الإرهاب يكون بإقرار العدالة، وعدم الكيل بمكيالين، ومحاولة إعادة مفاهيم حقوق الإنسان, والمنظومة الدولية، على أساس العدل والحق والصدق.. لتأسيس شراكة إنسانية صحيحة تعيش فيها البشرية وهي تتبادل المنافع، وترعى المصالح، مما يشكل مدخلاً صحيحاً للحوار الحضاري، حتى لا يتحوّل إلى حوار الطرشان الذي يقف على ساق واحدة، ولا يحقق المناخ الصحي الذي تنشده أمتنا..
حوار الذات
ودعا الدكتور البشير إلى الحوار مع الذات قبل ان نحاور الآخر.. علينا أن ننقد أنفسنا وأن نصوِّب مسيرتنا، وأن نرشّد خطونا، وان نقوّم اعوجاجنا..
كما دعا معاليه إلى حوار إسلامي إسلامي: تعاونا في المتفق عليه وما أكثره.. وتسامحاً في مواضع الاجتهاد وما أيسره.. وتحاوراً بأدب الاختلاف في المختلف فيه وما أقلّه.
كذلك دعا المحاضر إلى أن نصون رحم الأخوة الإيمانية، وألا نقع في أعراض علماء الأمة نتيجة الخلافات في الرؤى والاجتهادات.. وان نتجنب آفة الفتوى الفردية في مصالح الأمة الكبرى وقضاياها المصيرية.. وأن نبحث عن القواسم المشتركة، وإحياء الفقه المشترك..
وكان من دعوات وزير الأوقاف السوداني أيضاً إحياء المصالحة الشاملة بين فعاليات الأمة كلّها.. وبين العلماء، وبين الفصائل الإسلامية، وبين المؤسسات الرسمية والمؤسسات الشعبية.. لأن الكل مستهدف وينبغي أن يقف الجميع في خندق واحد، يذود عن أمته، عن عقيدتها، عن مقدساتها، عن ثرواتها، عن مصالحها.. والمرء ضعيف بنفسه قوي بإخوانه.. قليل بمفرده، كثير بأعوانه..
وأكد معاليه في نهاية محاضرته إلى أنه بقدر ما ننجح في تحقيق حوارنا مع الذات نحقق لأنفسنا أرضية صلبة لأن غيرنا لن يحترمنا ما لم نحترم أنفسنا.. وحوارنا مع الذات، وإحكامنا للبيت من داخله، مقدمة ضرورية لنجاح حوارنا مع الغرب.
التعقيبات
هذا وقد أثنى عدد من المعقبين على محاضرة الدكتور عصام البشير، بدءاً من الدكتور راشد الراجح الذي وصفها بالجولة النافعة والمحاضرة القيّمة المبنية على الفكر والعلم والتجربة..
وقال الشيخ محمد المشوّح إن الحاضرة تحمل بلسماً شافياً لعديد من الأدواء والأسقام التي أصيبت بها الأمة في هذا الزمان.. وطالب المحاضر بايجاد مشروع فكري يتناول هذه الرؤية الناضجة الراشدة..
ووجد الدكتور محمد مريسي الحارثي أن المحاضرة كانت ماتعة نافعة.. وأشار إلى أن الحضارة الغربية اختزلت في أمريكا، التي سخرت القوة في سبيل الصليب..
كذلك أشاد كل من الدكتور محمود حسن زيني، والدكتور محمد عويض الحارثي، والدكتور عبدالله عبدالرشيد، بما جاء في المحاضرة من طروحات قيمة، وأفكار نافعة، ورؤى مخلصة.
|