كنا قد أوردنا في نهاية مقالنا السابق شهادة المفتش الفرنسي العام أيام الاستعمار ( جاك بيري) للموريتانيين البيضان، حيث قال:( لا يوجد أي مجتمع بدوي بلغ مجمع البيضان الشناقطة في العلم بالعقيدة والتاريخ والأدب والفقه وعلوم العربية).
والواقع أن شهادته هذه تُعبر بكل دقة عن المستوى الذي بلغه هؤلاء القوم في التمكن من الثقافة العربية الإسلامية في جميع مكوناتها مقارنة بغيرهم من الشعوب البدوية خاصة، مما جعلهم على قدر يسمح بمقارنتهم بعلماء الحواضر العلمية الكبرىفي فاس وتونس والقاهرة.
ولذا فمن النادر أن يأتي الحديث عن هذه الحواضر العلمية في القرنين أو الثلاثة الماضية إلا ويأتي ذكر لأعلام شناقطة حاوروا أعلامها بل درسوا بها، وكذلك الشأن بالنسبة للحجاز والعراق والأردن والسودان وحتى تركيا.
فلقد كانت رحلات الأعلام الشناقطة إلى الحج رحلات علمية تقتضي من أصحابها المرور بأغلب الحواضر الإسلامية فتكون لهم لقاءات بأعلامها مما خلد لهم ذكراً رفيعاً في أغلبها.
وقد استند العلماء الشناقطة في حسن سمعتهم العلمية إلى معرفة راسخة بمكونات المدونة العلمية العربية الإسلامية وذلك من خلال عامل الحفظ والتمثل التام لهذه المدونة.
وقد تكونت المعرفة العلمية بالمدونة الثقافية العربية الإسلامية من خلال تركة معرفية تراكمية ترسخت لديهم تالداً عن تالد لمدة قرون عديدة، قرون سبقت نهضتهم الثقافية التي قلنا إنهم شيدوها في القرون الأربعة السالفة.
ولقد كانت انطلاقة الشرارة الأولى للمعارف الإسلامية في هذا الجزء النائي من المغرب الإسلامي أيام أن أقيم أول رباط تأسيسي للدولة المرابطية، هذا الرباط الذي أقيم في جزيرة في المحيط الأطلسي قرب نواكشوط العاصمة الموريتانية الحالية، مع نهاية النصف الأول من القرن الخامس الهجري.
وقد أُسس هذا الرباط على أيدي رجال من قبائل بريرية، تلك القبائل التي تشكل السكان الأصليين لموريتانيا، وهذه القبائل هي صنهاجة ولمتونة ومسوفة وكدالة.
وقد تأسس هذا الرباط من طرف فقيه صنهاجي هو عبد الله بن ياسين ليكون النواة الأولى أيضا للدولة المرابطية التي نذكر من أمرائها أبو بكر بن عامر الذي يوجد قبره قرب تجكجة في ولاية تكانت في الشمال الشرقي من موريتانيا الحالية.
وكذلك يوسف بن تاشفين ابن أخته, وأمير المرابطين القوي الذي شيد مدينة مراكش في الجنوب المغربي كعاصمة لملكه الذي شمل المغرب والأندلس, بالإضافة إلى الصحراء الموريتانية.
ويذكر تاريخياً لهذا الأمير المرابطي أنه أنقذ الأندلس من السقوط عندما انتصرت جيوشه في معركة الزلاقة الشهيرة.
غير أن مستوى الإلمام بالمدونة الثقافية العربية الإسلامية لم يتركز لدى أهل موريتانيا من البربر إلا مع بداية هجرات قبائل بني حسان العربية، أبناء رزق ( المرازيق) في المرحلة الأولى ابتداء من نهاية القرن السابع الهجري, ثم القبائل المغفرية التي جاءت في موجات كبيرة ابتداء من القرن الثامن، واحتلت جميع الأراضي الموريتانية الحالية، وأنشأت إمارات سياسية خاصة بها، وفرضت لغتها وطبيعتها العربية في العيش، مما مهد لقيام النهضة الثقافية التي تحدثنا عنها قبل هذا التي كان الاستعداد لها قائماً لدى السكان الأصليين، ولم يكن ينقصهم إلا ما عرف من الطفرة التعريبية التي وقعت مع مجيء القبائل العربية التي قلنا إنها دخلت البلاد في موجات كبيرة ومتكررة.
وهكذا، وأمام تحكم القبائل العربية في البلاد سياسياً وثقافياً, فإن السكان الأصليين من البربر لم يجدوا بداً من تمثل الثقافة العربية بكل مكوناتها فحملوا لواءها الديني والمعرفي كنوع من التعويض عن فقدانهم للنفوذ السياسي الذي اختص به العرب.
فكانت القبائل ذات الأصول البربرية التي عرفت فيما بعد باسم قبائل الزاوية هي التي تحمل لواء الثقافة، فاشتهر منهم أعلام كبار في جميع مجالات الثقافة العربية الإسلامية بالطريقة نفسها التي عرفت في المشرق في القرون الأولى لقيام الدولة العربية الإسلامية وذلك عندما تصدر الموالي المحافل الثقافية، واختص العرب بالسياسية والفروسية وهو الأمر الذي قلنا إنه تكرر في موريتانيا وكأنَّ التاريخ يعيد نفسه هناك, بل إن قبائل الزاوية ذات الأصول البربرية تلك قد بدأ أعلام نخبها يتنكرون لأصولهم البربرية ويبحثون لهم ولبني قومهم عن روابط وأساند تربطهم بالأنساب العربية، ولسان حالهم يردد مقولة مولى هشام بن عبد الملك الشهيرة:( إن كانت العربية ديناً فقد دخلنا فيه، وإن كانت لساناً فقد نطقنا به)، بل إن الزوايا قد تجاوزوا ذلك بهيمنتهم التامة على الثقافة العالمة فقهاً وعقيدةً ولغةً وأدباً.
والواقع، أنهم في مجال الأنساب قد اختلطوا مع العرب وساعد عامل عدم الاستقرار والنزوح الدائم للناس على طول وعرض الأراضي الموريتانية إلى ذوبان القبائل العربية والبربرية بعضها في بعض، الأمر الذي يجعل من الصعوبة بمكان الجزم بالأصول الفعلية لأي قبيلة كانت، فهم متشابهون في الأشكال والملامح ويتكلمون اللجهة الحسانية نفسها دون وجود لكنة أو مميزات صوتية تجعل المرء يجزم بأن مخاطبه هو من أصول عربية أو بربرية. بعبارة أدق, إن مستوى الانصهار بين العرب والبربر في موريتانيا لم يعرف له مثيل في البلدان المغاربية الأخرى لأن مستوى التعريب الذي عرفته القبائل الموريتانية لم يعرف له مثيل في البلاد المغاربية كلها, حيث إننا مازلنا نجد معاقل بربرية في تجمعات سكانية كثيفة في ليبيا والجزائر والمغرب وبقدر قليل في تونس بينما لم يعد للبربر وجود ثقافي في موريتانيا اليوم وحال أهلها يكرر قول شاعرهم:
لنا العربية الفصحى وإنَّا
أشد العالمين بها انتفاعا
فمرضعنا الصغير بها يناغي
ومرضعه تكورها قناعا |
|