حينما يصل إيمان الإنسان بربه عزَّوجلَّ إلى أعلى درجات القوة والثبات تهون عنده الصعاب، وتصغر أمام صبره ويقينه وثباته المصائب، ويصبح في أسمى درجات الاسبتشار بنصر ربِّه وتأييده.
هذا هو فرعون بجبروته وطغيانه، وملكه الطويل العريض، وجيوشه الجرَّارة ومستشاريه وقوَّاده، وأمواله الطائلة يرسل في المدائن حاشرين، رجالاً يجمعون الناس ليتضاعف عدد الجيش الذي سيحارب موسى عليه السلام ومن معه، صورةٌ تذكِّرنا بأساطيل، وطائرات، وصواريخ الدول الكبرى المتسلِّطة في هذا الزمن، وهي صورة مخيفة في الميزان البشري، خاصة وأنَّ الظالم ينظر باحتقار إلى المظلوم (إنَّ هؤلاء لشرذمة قليلون)، وما داموا كذلك فلن يصمدوا لحظةً واحدةً أمام قوَّاتنا الجارفة المجلجلة.
هكذا تصبح الصورة ضخمةً مخيفةً، فماذا جرى.
يقول تعالى: (فأتبعوهم مشرقين، فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون. قال كلاّ إنّ معي ربي سيهدين، فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرقٍ كالطود العظيم، وأزلَفنا ثَمَّ الآخرين، وأنجينا موسى ومن معه أجمعين، ثم أغرقنا الآخرين، إنَّ في ذلك لآيةً وما كان أكثرهم مؤمنين، وإنّ ربك لهو العزيز الرحيم)
هنالك قوَّة غاشمة لا ترى إلا نفسها، ترى ما هي عليه من التمكُّن والقوَّة وما عليه خصمها من التزعزع والضعف، فهي تنظر على زاوية واحدةٍ من خارطة الكون الفسيح، زاوية صغيرةٍ جداً لا يمكن أن تذكر أمام سعة هذا الوجود وعظمته، وهذه القوَّة الغاشمة مغرورة بنفسها غروراً مثيراً للسخرية عند من ترى بصائرهم عظمة قوَّة الله سبحانه وتعالى الذي لا تساوي دنيانا كلُّها عنده جناح بعوضة، الذي لو اجتمع الإنس والجن منذ بِدْءِ الخليقة، فأعطى كلَّ واحدٍ منهم مسألته ما نقص ذلك من ملكه سبحانه شيئاً إلا بمقدار ما تنقص الإبرة الصغيرة من البحر العميق، نعم، هذه هي صورة قوَّة فرعون الغاشمة التي أرعبت الناس، وأصابت بني إسرائيل بالذعر، وجعلت كثيراً منهم يشعرون بعدم القدرة على مواجهة هذا الجيش الفرعوني الذي يلاحقهم.
(فأتبعوهم مشرقين) منذ الصباح الباكر، بدأت مطاردة الجيش العملاق لذلك العدد القليل، وما دامت مطاردة، فهي دليلٌ على أن التكافؤ بين الجيشين غير واردٍ أصلاً، إنما هي صورة واضحة لقوي طاغٍ متجبِّر يلاحق طريداً شريداً.
ومن هنا كانت صرخة قوم موسى الواضحة (إنا لمدركون)، توكيدٌ واضحٌ، وشعور بالضعف أمام تلك القوة البشرية الهائلة، مع ما في أذهانهم من صورة فرعون الطاغية التي رسخت فيها منذ سنوات طويلة.
(إنا لمدركون) جملة بشرية خالصة، تعبر عن إحساس الإنسان المجرَّد الذي يتعامل مع الأمور بمقاييسها المادية الظاهرة، وهي جملة صحيحة في هذا المستوى من التعامل مع الأحداث والمواقف، ولكنها جملة تدلُّ على حاجة قلوب من قالها على يقين أعمق بعظمة الخالق عزَّوجلَّ، وهذه الجملة من الجمل (الانهزاميَّة) إذا نظرنا إليها بمنظار الإيمان الراسخ بالله سبحانه وتعالى، وهي كفيلة إذا توقف عندها الناس أن توقعهم فيما يخشونه، لأنَّ ما يخشونه بالمقياس المادي، ومقياس التماثُل والتكافؤ، يعد قويّاً جارفاً بالنسبة إلى القوة الضعيفة التي تواجهه، تلك القوة التي عبّر عنها فرعون بقوله: (إنَّ هؤلاء لشرذمة قليلون).
كيف يكون الخلاص؟ ومتى تكون البشارة بالنجاة من هذا الموقف؟ ومتى يتحقَّق النصر مع هذه الصورة القاتمة؟
هنا، لابدَّ من التعلُّق بالقوَّة العظيمة التي لا توازيها قوَّة، ولابدَّ من التخلُّص من حولنا البشري وقوَّتنا الضعيفة إلى حول الله وقوته.
وهنا، لابدَّ أن تكون درجة اليقين بالله عزَّ وجلَّ عالية جداً.
وهنا، كان الانتقال إلى درجة اليقين العالي بالله سبحانه وتعالى سريعاً مباشراً لا تَردُّد فيه ولا انهزام حيث باشر موسى عليه السلام الموقف بقوله:
إشارة: (كلاَّ إنَّ معي ربِّي سيهدين).
|