في الأسبوع قبل الماضي كتبت مقالاً انتقدت فيه موقف بعض المثقفين من قرار منع الرموز الدينية في فرنسا، ومن ضمنها حجاب المرأة المسلمة، وذهبت في القول أن من يقف مع قرار في منتهى الأحادية في فرنسا، وهو يصارع في جهبة داخلية موقفاً مناهضاً ضد الاحادية المذهبية أو الرؤية الضيقة للشؤون العامة والخاصة، هو في حالة انتحار فكري وتناقض ظاهر في المألوف في عرف الثقافة، وفي ثنايا الطرح تطرقت أيضاً لموقف ( الفقيه) الذي يطالب فرنسا بالإلتزام بالتعددية والحرية، بينما هو يمارس الإقصاء للآخر في بلاده، وهو ما يجعله فاقداً للموضوعية التي يجب أن يتحلى بها إذا أراد ان يكون مقنعاً في بلاد ( الفرنجة)، لكن ( مقص) الرقيب ( ربما) قرر شطب تلك الجملة التي ختمت بها مقالتي، واعتبرها خروجاً عن السقف المسموح به، وانا هنا لا اعترض على فلسفة المحرر وخطوطه الحمراء على الإطلاق، لكنني أجدها حدوداً قد تجعل مهمة الكاتب أكثر صعوبة، وتضعه في نفس ذلك الموقف العقلاني ( المتناقض) الذي وقع فيه المثقف الفرنسي عندما أوصى بمنع الحجاب أو الرموز الدينينة، بينما الدستور يقول العكس تماماً.. وبذلك يتبادر سؤال جديد: فهل نقد المثقف من المباح، بينما نقد الفقيه من المحظورات.
في القرون الأولى، وبعد ظهور المذاهب الفقهية والكلامية، حدث انقسام شديد بين الفقهاء والمتكلمين جراء الاختلاف بين العلوم العقلية والعلوم النقلية، فقد كان الفقيه يمثل رؤية سلطوية في حين كانت اجتهادات متكلمي الطوائف الاخرى تمثل فكر المعارضة في تاريخ الإسلام السياسي، وكانت مواقعهما تتبدل حسب قربهما وبعدهما من المؤسسة السياسية، كما حدث في محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد، لكن خلافاً آخر بدأ في الظهور بوضوح بين الفقيه الذي يمثل المدرسة التقليدية وبين الفقيه التنويري حينما يسعى إلى طرح رؤى وأفكار جديدة نابعة من مناهج تفكير علمية صادرة من خارج هذه المدرسة، والسبب في ذلك هو أنها دائماً ما تعتبر أفكارها تمثل جوهر الدين، وأن منهجها هو المنهج المثالي لفهم الدين، وأنها تملك وحدها لا غيرها حق شرح مقاصد الدين ودوره الاجتماعي، وكان طرح تلك المدرسة نفسها بوصفها وصية على الآلية المنتجة للفكر والأحكام والإيمان كآلية وحيدة في هذا المجال ثم حماية رموزها من ( النقد) البناء يزيد من تلك المسافة بين ( المثقف) الإسلامي التنويري وبين ( الفقيه) التقليدي.
والفقيه هو المتخصص في الفقه الإسلامي وصاحب الرأي في احكامه، أي انه القادر على استنباط الحكم الشرعي من مصادر التشريع، من خلال فهم النصوص المقدسة فهماً علمياً دقيقاً خاضعاً للقواعد المثبتة في علوم القرآن( تفسير آيات الاحكام، النساخ والمنسوخ وغيرهما)، وعلوم الحديث( الدراية، الرجال وغيرهما) وعلم اصول الفقه، اضافة الى علوم اللغة العربية، ثم استنباط الاحكام الشرعية في جميع مجالات الحياة التي يستوعبها الفقه الإسلامي، ولكنه في نفس الوقت إنسان له مواقفه وآراؤه الذاتية في المسائل الطارئة، وقد يتخذ موقفاً ما من قضية، وهو بذلك يدخل في دائرة المثقف الذي يطرح أفكاراً قابلة للنقد والمراجعة، وبالتالي كذلك آراؤه واجتهاداته الفقهية المستندة على فهم النصوص لا بد ان تخضع للدراسة والمراجعة من قبل المهتمين في ذلك الشأن.. ولا يجب أن يحظى الفقيه الشرعي بحصانة، وان تكون لآرائه وتفسيراته قدسية ومكانة خارج دائرة النقد المنهجي.
وانطلاقاً من هذا الموقف المتضاد، قد يثار سؤال معرفي حول دوافع وأسباب الفصل والتفكيك في المصطلح بين المثقف من جانب، والفقيه والمفكر من جانب آخر، على اعتبار ان المدلول المعرفي العام لمصطلح المثقف يشتمل على الفقيه والمفكر ايضاً.
وعلى حد تعبير بعض علماء الاجتماع من ان مصطلح المثقف يستوعب جميع منتجي الافكار وناشريها وحملتها ومستهلكيها، بمن فيهم علماء الدين والادباء والكتاب والمهنيين والتكنوقراط، ووضع المثقف كرمز ( تنويري) بالمفهوم الغربي والذي يقبل النقد وينظر للمستقبل ويتابع متغيرات الواقع ويحمل رسالة النهضة بجوانبها الحضارية، في مواجهة الفقيه الذي حوله إلى هالة من القداسة، ويرتبط بالماضي والتراث والنص المقدس، يزيد من حالة الانفصال بينهما، ويفرض حالة من الخلاف والعداء الدائم.
ومع ثورة المعلومات الاخيرة في المجتمعات العربية عاد من جديد إلى الواجهة ما يطلق عليه بالمثقف الديني أو الإسلامي المستقل، أي من يمثل وجهة نظر ليست بالضرورة تتفق مع الرأي الرسمي، وهو ما قد يساعد على تضييق اتساع الهوة بين الفقيه التقليدي، وبين المثقف بمفهومه( الغربي)، ويقرب من مسافات الخلاف بينهما، وبالتأكيد سيؤدي الاختلاف المحمود والصراع المنهجي بين التيارات الثلاث إلى خروج تيارات متجددة في فهم وتفسير مقاصد الدين الحنيف، وتأصيل جديد لمبادىء التسامح وقبول الرأي الآخر.. والمصطفى صلى الله عليه وسلم نبي هذا الدين وداعيته الأول.. أول من أشار إلى موضوع التجديد، وأنبأنا بأنه سيبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة عام من يجدد لها أمر دينها، والناس منذ ذلك التاريخ يختلفون ويقدمون الطروحات حول: من الذي يجدد؟ ومتى تقوم الحاجة إلى التجديد؟
والدولة ( العثمانية) ارتكبت اخطاء فادحة عندما ركزت على اصلاح المؤسسة الامنية، والجهاز الإداري، وتجاهلت البناء الاجتماعي والسياسي، والثقافي، والذي لم تبدأ بإصلاحه الا بعد فوات الأوان، أي عندما بدأ الغرب في توظيف شروط ومطالب ذلك الإصلاح لتفكيك الاقتصاد والاجتماع والثقافة بشكل ملائم لتوطيد سيطرته وهيمنته عليها، وهذا ما قد يحدث مع الضغوط التي يمارسها الغرب لاستكمال الشروط الملائمة للدخول في دائرة ( العولمة)،.. إذ ان مطالب الانضمام للعولمة في غاية الصعوبة، ولا يمكن تجاوزها أو تحقيقها في فترة زمنية قصيرة، ولا يمكن الاستعداد لها في داخل جيوب منفصلة، سواء كانت ثقافية أو دينية.. إذاً لابد اولاً من الاستثمار في الأسس الاجتماعية والسياسية والثقافية ، وتطوير مناهج النقد البناء والشفافية وتقنين الاختلاف وحرية التعبير، والتي بتكاملها ستكون كفيلة بتأمين خطوط دفاع صلبة ضد الهجمة الغربية من خلال ثغرة العولمة.
|