عودا على بدء.. ففي مثل هذا الوقت من كل أربعة أعوام, نعود نحن العرب والمسلمين.. وبعدنا العالم, وقبلنا الأمريكيون للاهتمام بموضوع الانتخابات الأمريكية من جديد.. وأذكر قولا مهما سبق أن ذكره لنا الدكتور غازي القصيبي قبل سنوات عندما كنت اعمل بالملحقية الثقافية السعودية بلندن, حيث ذكر لنا أنه لا يتابع الانتخابات الأمريكية لسبب واحد فقط, أنه عادة لا يتابع أي شيء لا يكون له مقدرة في التأثير عليه..
وبصراحة فقد صدمنا الدكتور القصيبي بهذا المنطق.. فقد أعدنا التفكير في كثير من أمورنا التي لا نستطيع أن نؤثر على مساراتها.. وهذه كثيرة جداً.. إن على الصعيد الشخصي أو الصعيد العام.. ولهذا بدأنا نفكر في التفاعل الأقل مع قضايا الرأي العام الدولي لأنه لا قدرة لنا أن نصنع أحداثه أو نغير اتجاهاته.
ولكن.. بعد استيعاب الصدمة, وجدنا أهمية في العودة إلى التفكير في هذه المسألة الخلافية.. ففي نظرنا اليوم أن أي شيء يمكن ان نؤثر فيه أنت وأنا وهي وهو، حتى ولو في درجة بسيطة من التأثير.. ومع الإنترنت ووسائل الإعلام فقد أصبح لكل شخص رأي يمكن ان يعبر عنه حتى في قضايا محلية في بلاد بعيدة مثل البرازيل وبورما وترنداد وهونولولو .. وغيرها من الأصقاع والأمكنة.. ولهذا فقد ينتفي منطق التسعينيات الذي كان يتحدث عنه الدكتور القصيبي أمام جبروت التقنية الاتصالية الذي نعيشها اليوم مع مطلع السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين..
ونحن اليوم أمام سؤال.. هل نستسلم للظروف الدولية التي نواجهها اليوم بحجة أنه لا حول لنا ولا قوة.. أم أننا نحاول أن نؤثر بالقدر المستطاع على مجريات الشأن العام المحلي والعربي والإسلامي والدولي..؟ في ظني ان هناك كثيراً من فرص التأثير التي يمكن ان نستفيد منها, والكثير من مساحات العمل التي يمكن ان نوظفها لخدمة مصالحنا وعلاقاتنا وأهدافنا.
اليوم نعيش مثل أي فترة زمنية مع مطلع كل عام في دورة الانتخابات الأمريكية التي تحدث كل اربع سنوات.. وها نحن نفرح ونصفق ونبكي ونولول على هذا المرشح او ذاك من المرشحين.. فتارة نرشح الحزب الديموقراطي وتارة الحزب الجمهوري.. وبين مرشحي كل حزب تارة نرشح مرشح اليمين وتارة نرشح مرشح اليسار.. وتارة الى الوسط.. انها حكاية الحكايات تتكرر في مثل هذا الوقت.. ولو عدنا الى القصاصات الصحافية قبل أربع سنوات بالضبط لوجدنا اننا نجتر اليوم ما اجتريناه في تلك السنة.. ونجتره كل أربع سنوات مع مطلع عام الانتخابات الأمريكية.. ولكن هل نيأس؟
إسرائيل وحدها ومعها كل القوى الضاغطة داخل المؤسسات الاقتصادية والإعلامية والسياسية والتشريعية في المجتمع الأمريكي ترى أن لها كلمتها, ولها نفوذها, ولها تأثيرها على مجريات القضايا والموضوعات والأشخاص والرأي العام بشكل عام.. ولهذا فإسرائيل موجودة كطرف محوري في السياسة الانتخابية الأمريكية.. وهي تعرف ان الفاتورة التي تدفعها خلال هذا العام ستعطي أكلها خلال الأربع سنوات القادمة على شكل قروض ومصالح وقرارات وسياسات ومجاملات وتغاضي وتعاطف وتأييد وموالاة مع كل الفائزين في هذه الانتخابات.. وإسرائيل تعرف -قبل أي دولة أخرى- ان عام الحملة الانتخابية هو الأهم بين كل الأعوام الأخرى.. ونعرف ان العرب دولا ومؤسسات تنشط دائماً في الأعوام غير الانتخابية.. في محاولة للتأثير على اتجاه القرار الأمريكي.. وهكذا يكون العرب قد اختاروا التوقيت الخطأ في تحركهم وجهدهم.. ويحاولون دائماً ان يسكنوا عندما يتحرك الآخرون.. ويتحركون عندما لا يكون لحركتهم تأثير.. وينشطون عندها للتأثير على القرار الأمريكي عندما يكون هذا القرار قد اتخذ سلفا قبل شهور وأعوام.
إسرائيل تنشط دائماً من خلال حملات جمع التبرعات للمرشحين حتى ان اكثر من خمسين في المائة من حملة جمع التبرعات لاحد المرشحين الأساسيين في الانتخابات الماضية كان من خلال اللوبي اليهودي في المجتمع الأمريكي.. وهنا يأتي التأثير الحقيقي على القرار السياسي.. أما العرب فهم ينشطون عادة بعد تولي هؤلاء كراسي المسؤولية.. فنأتي لنهنئ ونبارك ونسلم ونودع.. ونكون قد جئنا متأخرين الى حفلة لم نكن أساساً مدعوين اليها.. هكذا نحن دائماً خلال الخمسين عاما الماضية من تاريخ تزامن الانتخابات الأمريكية مع مشكلة الشرق الأوسط.
اليوم نعود الى القصة الأولى والحكاية المعتادة.. هل نؤيد جورج بوش ام نصفق لجون كيري؟ هل نتوافق مع الحزب الجمهوري أم نتفق مع رؤية الحزب الديمقراطي؟ هذه الأسئلة ستتفاعل كثيرا مع مرور الأيام القادمة. وستضخ وسائل الإعلام الأمريكية والعالمية والمحلية لأي بلد بكثير من القضايا والهموم والمشاكل والمسائل الأمريكية وتداعياتها على السياسات المحلية الاقليمية والدولية.. وستنجح هذه الوسائل قبل يوم الانتخابات في نوفمبر القادم في تقسيم العالم بدوله ومؤسساته ومواطنيه الى مجموعتين, مجموعة ترشح إعادة انتخاب الرئيس جورج بوش, ومجموعة ترشح انتخاب المرشح الديمقراطي الذي ربما يكون JFK الجديد - جون إف كيري.. او ربما يكون أي شخص آخر.. والمهم أن يكون هناك اثنان يتبادلان الأدوار.
وأعود الى مقولة الدكتور القصيبي الذي قال إذا لم نكن قادرين على التأثير في مجريات أمور عامة أو خاصة فخير لنا ان ننام ونصحو باكرا لنعرف نتائج القرارات التي صنعها لنا الآخرون.. وأجد ان مثل هذا القول يحتاج الى توضيح وتحديد أكثر.. لان العرب بمقدورهم ان يصنعوا أشياء كثيرة ويغيروا أموراً كثيرة في السياسة الدولية.. ولكن حتى يحين هذا الوقت فلننم حتى تتجلى أمور هذا العالم.
(*)رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية للإعلام والاتصال
أستاذ الإعلام المشارك بجامعة الملك سعود
|