ستبقى ليلة السابع من الشهر الحادي عشر جرحاً غائراً في قلبي، وألماً يسري في فؤادي، ونقشاً من الأسى في صدري، وصفحات من الألم عشتها في حياتي، وعِبراً غرست في ذاكرتي، تلك الليلة التي ودعت فيها أبي، عنوان الطيبة، والبسمة الهادئة، والنفس الزاكية، أبي الذي حملتُ له أروع المواقف، وأطيب اللمسات في مسيرتي، أبي الذي ودعت فيه معاني الحب والرحمة، أبي عنوان التسامح والحلم، لم يسع أحداً بماله وعلمه لكنه احتوى الجمع الغفير من محبيه بدماثة خله، وطيب معشره عجباً لهذه المضغة التي حملت هذا الحب الكبير ولم تضجر به، ما تبرمت يوماً وما كدرت من حولك، لقد عشتُ وفاتك درساً يكوي فؤادي، وهاجساً يعيش معي لحظات عمري، لقد كانت حياتنا عبقاً بك، واليوم غدت موحشة لفراقك، ولكن ما نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا أبتاه لمحزونون...
إنها لعبرة تلك الدنيا، كيف نقلت في لحظات من مسافات لتحط في الرياض، لتحين ساعة الأجل فيها، ويوارى جثمانك ثراها، (وما تدري نفس بأي أرض تموت...) ولحظات من الصحة والدعة ثم تغيب بوعيك عن الدنيا، لتعيش بيننا جسداً وإن لم تكن معنا، وفي اغفاءة خاشعة نودع روحك التي فاضت من جسدك كنسمة الصبا إلى جنة الفردوس بإذن الله..
لقد لهجت الألسن بالدعاء، في نغم ساكن، ونفس صادق، خرج من القلوب المودعة، في درس مؤلم لنا نحن معاشر الأحياء... كم أفرحني ثناء الناس عليك بطيبة القلب التي عرفتها عنك طوال حياتي، لم تبتدر خصومة مع بشر حتى نحن أبناؤك لم تعنف معنا، لم تدنس قلبك الطاهر البغضاء..لقد كان طيباً لم يؤذ أحداً هكذا بعفوية تامة رددتها جموع المصلين والمعزين فيا الله متى ندرك هذه المنزلة!
كم كان جميلاً أن يجتمع القاصي والداني في منظر مهيب ليودعوك، في منظر خشعت له القلوب، وذرفت له العيون، وزادت فيه حرارة الاشواق، وتفطرت فيه أكبد، واختلطت فيه عبرات، ودَّعناك في سكون من الكلمات، وذهول من العبارات، لم يقطعه سوى الدعوات، وسيل من العبرات، أبتاه لقد أتعبت من بعدك..
كم أنت عظيم بحق! طارحتك هموم وآلام، وغزتك جراح وأسقام، لكنك لم تتبرم، لم تعترض على القضاء، قد سلمت أمرك كله، قد نسيت أسقامك مع برد اليقين، وما برحت إيمانك حتى آخر لحظات عمرك، أدرك الناس جلدك على الرزايا، وتحملك البلايا، أفنيت دهرك لم تشتكِ، تجالس العموم تحادثهم وكأنك أصح الناس، تشاركنا أفراحنا رغم أوجاعك، نفس شابة لم أعهد عليك اختفاء في ساعة حضور، وهبت من صحتك للآخرين، ووقتك في السؤال عن الأرحام، لم تفتنك بهارج المدنية الزائفة، ولم تصرفك مشاغل الحياة الزائفة عن واجباتك الاجتماعية...
أبتاه لقد عشت عظيماً، ومت عظيماً، بلغت منزلة رفيعة من الحب متى يدركها الأحياء، وتفطن لها النفوس، لئن نستك الأرض، ولئن فقدتك المنازل، ولئن أقفرت منك الاجتماعات، فلن تفارق القلوب التي سكنتها بالحب، ودلفتها فأطبق عليها ذكرك الحسن، ستبقى قلوبنا تحبك قدر ما زرعت فيها حبك بطيبك الذي غمرنا، وإن ذهب عمرك الزمني، فعمرك الخالد سيبقى أبد الدهر، فالذكر للإنسان عمر ثانٍ... وداعاً أبتاه إلى لقاء خالد في جنة الخلد بإذن الله.
|