Thursday 5th February,200411452العددالخميس 14 ,ذو الحجة 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

فيض الضمير فيض الضمير
غضب المحبين!!
د. محمد أبوبكر حميد

المحبون يغضبون بلا شك لأنهم بشر، والغضب لا يكون فقط على من يحبون من الناس بل حتى على الأوطان أيضاً.
وأعظم الناس هم الذين يحبون أوطانهم أكثر ممن يحبون من البشر, ومع ذلك فهم يغضبون على أوطانهم، ويخاصمون أوطانهم، ولكن غضبهم وخصامهم لا يخلو من الحب، شأنهم شأن كل محب سوي. والغضب الناتج عن الحب له ميزات تميزه عن سواه من أنواع الغضب..
غضب المحب لهب يحيط بالورد دون أن يحرقه!!
وقد غضب أدباء وشعراء على أوطانهم في عالمنا العربي والإسلامي وخاصموا هذه الأوطان بالهجرة منها وبالهجاء، ولكنهم لم يكفوا عن حب هذه الاوطان أبداً.وقد رأيت ان الادباء الذين هَجوا أوطانهم هم اكثر الأدباء والشعراء حباً وإخلاصاً وتعلقاً بهذه الاوطان.
وقد هجا شاعر النيل حافظ إبراهيم مصر في أبيات شهيرة بعد ان شعر بالظلم حتى ضاقت به الحال، ولم يشعر بالتقدير الذي يستحقه فأنشد:


وما أنت يا مصر بدار الاديب
وما أنت يا مصر بالبلد الطيب
وكم فيك يا مصر من كاتب
أقال اليراع ولم يكتب!!

وعندما اختلف الاديب الكبير علي أحمد باكثير مع بعض كبار قومه في حضرموت وشددوا عليه الخناق هاجر، ولم يعد إلى وطنه الا زائرا قبل وفاته بسنة، وله قصيدة بهذا الخصوص يقول فيها:


سأخرج من بلادي غير شاك
ولا باك وربي لي حسيب
واهبط مصر حيث العلم حيث
النيل حيث يحترم الاديب!!

ومع ذلك فإن اكبر غضب وأجمل غضب مّربي كان غضب الشاعر العراقي الكبير معروف الرصافي (1877 1945) في قصيدة عميقة عمق جراح العراق, متأزمة بوجع العراق. أحب الرصافي العراق، وعشق بغداد، وقاسى من عذاب الحب، وتجرع مرارة العشق. كان الرصافي وطنياً مخلصاً مجاهداً بكلمة الحق، يدعو للالتئام، ينبذ الشقاق، صريحاً يكره النفاق. ويقال: إنه لم يكذب في حياته العامة أو الخاصة قط، وقد دفع ثمن صدقه عذاباً وغربة داخل الوطن وخارجه وظلماً من ذوي القربى احتمله بنفس كبيرة تعاف الدنايا وتترفع عن الصغائر، فلم يتسع قلبه لذرة حقد على الذين ناصبوه العداء من بني وطنه الذين حاربوه بضراوة، فقد كان يدفع بالتي هي أحسن.
اهتم بالتربية والتعليم، وعمل بالتدريس في بغداد ودمشق والقدس والأستانة ونظم أروع قصائده في الدعوة الى جيل جديد ينهض بأمته المنكودة. شهد الحرب العالمية الاولى، وأدرك الثانية، ورأى كيف لعبت دول الغرب بأمته وكيف شتت شملها.
لم يفت في عضده كيد العدو الاجنبي بقدر ما فت في عضده وكسر ساعده خيانة بعض ابناء وطنه وغدرهم وخذلانهم لوطنهم وأمتهم، فعندما قامت حركة رشيد عالي الكيلاني الشهيرة في أوائل الحرب العالمية الثانية، هب يناصرها، وكتب اناشيدها من نبض قلبه، ولما غدر بها قتلة الحسين أصابه إحباط واكتئاب، وانزوى عن الناس ولزم بيته حتى توفاه الله في الاعظمية ببغداد التي عشقها وتمنى الموت فيها. وللرصافي رحمه الله قصيدة غضب رائعة نادرة المثيل في ادبنا العربي الحديث لأنها تعبر عن الحب والغضب في آن واحد، وتعبر أصدق ما تعبر عن الوضع المأساوي الذي تمر به بغداد الآن بعد الاحتلال الامريكي لها يقول معاتباً متألماً ولكن بحب تتفجر به جنبات كل بيت:


اليك إليك يا بغداد عني
فإني لست منك ولست مني
ولكني وإن كثر التجني
يعز علي يا بغداد، اني
أراك على شفا هول شديد

وكأن الرصافي رحمة الله عليه وهو إلى جوار ربه يعيش مأساة العراق الحبيب الحالية، ويبحث عن زعيم صادق مخلص ينتشل شعبها المجاهد من مأزق كيد الأعداء وشقاق الأبناء فيقول مخاطباً بغداد:


تتابعت الخطوب عليك تترى
وبُدل منك حلو العيش مُرًّا
فهلا تنجبين فتًى أغرا
أراك عقمت لا تلدين حرا
وكنت لمثله أزكى ولود

ولن ولم يصب العراق بالعقم وسيلد زعيماً حراً يقوده الى الخلاص ولتطمئن روح الرصافي الى جوار ربه، وليهدأ غضبه ويتجدد حبه، فما كان غضبه إلا (غضب المحبين) رحمة الله عليه.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved