Wednesday 4th February,200411451العددالاربعاء 13 ,ذو الحجة 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

ذكريات الحج والعيد ذكريات الحج والعيد
د. زيد بن محمد الرماني/عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

الزمان: قديم موغل في أعماق الماضي.
المكان: مكة.. عندما كانت قفراً يباباً في الوادي الأجرد، لا يعمرها إنس، وإنما تلم بها بين حين وآخر جماعات من الرعاة يحطون رحالهم عند أطلال البيت العتيق، التماساً للراحة والبركة، ثم لا يلبثون أن يشدوا الرحال، ويضربوا في تيه الصحراء بحثاً عن مساقط الغيث ومنازل المطر.
في تلك البقعة المهجورة، وفي ذلك الزمن الغابر وراء التاريخ، جاء إبراهيم عليه السلام يسعى من الشمال ومن ورائه هاجر تحمل في حضنها وليدها إسماعيل.
خرج ابراهيم من أرض كنعان، ضارباً في طريق الجنوب إلى البلد العتيق، ومن ورائه الأم هاجر مهزولة في أعقاب نفاسها، منصرفة عن التفكير فيما كان ويكون بهذا الصغير الرضيع الذي يسكن إلى حضنها فينسيها كل الدنيا.
عند أطلال البيت العتيق حط إبراهيم رحله، ثم تهيأ للعودة من حيث جاء، تاركاً (هاجر) وولدها، مع جراب فيه تمر وسقاء فيه ماء.
وأدارت هاجر عينيها في هذا التيه القفر فسألت مرتاعة. أتتركنا هنا بهذا القفر الموحش؟ قال: بلى. فأمسكت هاجرعن الكلام برهة، ثم سيدها إبراهيم عليه السلام: آلله أمرك بهذا؟!
أجاب: بلى. قالت: إذن فالله لن يضيعنا! ولم تزد.. وسار إبراهيم منصرفاً حتى إذا بلغ ثنية الوادي رفع رأسه الى السماء، وقال في ضراعة وابتهال:
(ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة، فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) إبراهيم - 37.
ومضى، وظلت هاجر تتبعه عيناها حتى غيّبه منعطف الوادي، فأقبلت على وليدها تستمد منه الأنس في وحشتها، والقوة على احتمال محنتها.
حتى نفد الزاد الضئيل الذي تركه لها سيدها إبراهيم عليه السلام، ونفد الماء وخف ثديها فلم يعد يبض بقطرة.
إذ ذاك بدا لها أن تبحث هنا وهناك عن شيء يمسك الحياة على طفلها، فراحت تضرب فيما حول الأطلال دون أن تهتدي إلى شيء.
وسعت الى جبل الصفا فعرجت الى قمته لتشرف من علٍ على الوادي، لعلها تلمح من بعيد أثراً لحياة.
وهبطت من الصفا وسعت مهرولة إلى المروة، فصعدت وحدقت فيما حولها لعل أحداً غيرها يضرب في التيه.
ولا أثر ولا أحد وأعادت الكرّة.
وظلت تسعى مهرولة بين الصفا والمروة مرتين وثلاثاً وسبعاً، حتى وهنت قواها وهدّها اليأس، فارتمت الى جانب طفلها، لكنها لم تقو على احتمال رؤيته وهو يلهث ظمأ، والحياة تتسرب من كيانه اللطيف، وغطت وجهها بلفاعها وقالت: لا أنظر موت الولد ثم استسلمت لقضاء الله.
وتفتحت السماء لمشهد الأم فيما تكابد من هموم أمومتها وتجلّت رحمة الله، فتفجر نبع زمزم من تحت أقدام الوليد المبارك، وهرولت الأم الى النبع فارتوت وسقت وليدها وردت الروح الى الطفل وأمه، وبعثت الحياة في الوادي الأجرد وقد استجاب الله لدعاء إبراهيم عليه السلام.
من ذلك العهد السحيق، دخلت هاجر تاريخنا الديني، فكان مسعاها مهرولة بين الصفا والمروة شعيرة من شعائر حج العرب في الجاهلية والإسلام. قال عزوجل:(إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم) البقرة - 158.
وتمضي الدهور والأحقاب والأم هاجر ملء الحياة، فكلما دار عام القمر دورته وأهلّ عيدنا الأكبر، سعى الألوف من الحجيج بين الصفا والمروة مهرولين سبعة أشواط، كما سعت هاجر من قبل التاريخ.
تقول الدكتورة عائشة بنت عبدالرحمن (بنت الشاطئ):
في مكان بعينه بين الصفا والمروة وبالحركة نفسها: هرولت بينهما سبعة اشواط، وفي موعده الذي لا يتخلف، من عام القمر على مدار السنين من قديم بعيد وإلى الأبد. ذلك هو عيد الأمومة عندنا، شعيرة من شعائر الله.
أقول: لقد كانت الأمم الماضية تعرف الأعياد لهواً ولعباً وشراباً وطرباً وجلبة وصخباً، بل إن بعض الأديان القديمة كانت تتخذ أعيادها الدينية من مادة الإباحية المستهترة والفوضى الخلقية السافرة.
ويجيء الإسلام بموازينه العادلة ومعاييره الدقيقة الفاصلة، فيلقي على فكرة الأعياد ضوءاً جديداً يبعد بها عن انحلال المادية وفجورها.
تلك هي فكرة الأعياد في الإسلام فالصبغة الأولى - كما يقول الأستاذ محمد عبدالله دراز لأعيادنا الإسلامية صبغة روحية.
ولنستمع إلى هذا النشيد القوي الذي يتجاوب صداه في الطرقات، وعلى ألسنة الذاهبين إلى العيد أفراداً وجماعات، وفي المساجد على ألسنة المصلين أو المنتظرين لصلاة العيد. وفي البيوت على ألسنة المصلين عقب صلواتهم المكتوبة في أيام التشريق، وفي منى عند الجمرات على ألسنة الحجاج.لنستمع إلى هذا النشيد، أنه يفجّر الروح فرحاً وابتهاجا بإتمام رحلتها الشاقة الموفقة رحلة الصوم، أو رحلة الحج، ثم استبشاراً وتطلعاً إلى المستقبل بعين الثقة والأمل، إنه شعار الانتصار الروحي في التجربة الماضية والتصميم على متابعة هذا الانتصار الروحي في التجارب المقبلة.الله أكبر ولله الحمد...


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved