عندما كنت أقلب صفحات «الجزيرة» الغراء وأتنقل في رياضها الناضرة، من زهرة إلى أخرى ومن صفحة إلى التي تليها، وصل بي المطاف إلى خبرٍ قصير في صفحة «28» من العدد «11414» ينطق بالنتائج النهائية لمنافسات الخطابة والإلقاء التي أقيمت مؤخراً على مسرح إدارة التربية والتعليم في محافظة الزلفي بين مدارس المحافظة، وقد يسَّر الله تعالى لي حضور هذه المنافسات والاستماع لفرسان الإلقاء في مدارس المحافظة، وهنا أجدني مضطراً للبوح ببعض الأمور المتعلقة بمثل هذه المسابقة وذلك من خلال النقاط التالية:
أولاً: كان جُلّ اللوحات الإلقائية - الفردية والجماعية - يتحدث عما تعرضت له بلادنا في الفترة الأخيرة من أعمالٍ إجرامية أزهقت فيها أرواح بريئة وأتلفت فيها أموال محترمة، وكلها تبين خطورة هذا العمل وتندد به وتبيِّن موقف الإسلام منه، وتدعو بقوة إلى الوقوف صفاً واحداً ضد هذه الأعمال التخريبية، وتنادي بتوحيد الكلمة وانتظام الصف لقطع دابر الفساد ليسلم ديننا وليسلم بلدنا بلد الحرمين الشريفين، قبلة المسلمين ومهوى أفئدتهم، وهنا أجدها فرصة مناسبة للتأكيد على دور المدارس في توجيه الناشئة والشباب، وتنوير أفكارهم، وتحصينهم ضد كل فكر دخيل وإرشادهم لكل ما فيه صلاحهم وصلاح مجتمعهم في الدنيا والآخرة، فالمدارس معاقل تعليمية ومحاضن تربوية ترسم للطلاب الطريق الأمثل للمسلم الحق، وفي هذا رد بليغ على كل الافتراءات التي وجهها البعض - هداهم الله - للمناهج الدراسية والمناشط التربوية والتوعوية مدعين ظلماً وبهتاناً أن لها دوراً فيما حصل ويحصل من انحراف فكري وتشدد ديني أدى إلى التكفير والتفجير، ووالله إن هذا القول إثم وبهتان عظيم، فمناهجنا ومدارسنا ومناشطنا التربوية بريئة من كل ذلك براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام، وهي على العكس من ذلك تماماً تربي الطلبة على الأخلاق الفاضلة وتسهم في إعداد شباب مستقيم يخدم دينه ووطنه بكل اخلاص.
ثانياً: لا شك أن مهارة الارتجال الخطابي لا تقل عن مهارة الإلقاء المحفوظ إن لم تكن أهم ولكن الملاحظ هو أن الاهتمام الأكبر منصب على الثاني دون الأول، وحتى المسابقة الموسومة بمسابقة الارتجال الخطابي، لا تختلف كثيراً عن مسابقات الإلقاء الأخرى، حيث يُعطى الطالب خمسة موضوعات، ثم يُطلب منه الحديث عن واحدٍ منها، وهنا نجد الطالب يحفظ هذه الموضوعات ويلقيها عن ظهر قلب، فتحولت بذلك من الارتجال المجرد إلى الإلقاء المحفوظ، وهذا العمل - مع حسنه وجودته - يوجد ما هو أفضل منه ألا وهو الارتجال الحقيقي، بحيث يصعد الطالب خشبة المسرح وهو لا يعلم عن الموضوع الذي سيتحدث عنه، ولا بأس بإعطائه بعض الموضوعات المعروفة والقريبة من واقع الطالب كأهمية الصلاة وبر الوالدين وحسن الأخلاق ومساعدة الآخرين ونحو ذلك، وهذا العمل - وإن رآه البعض صعباً - إلا أنه أسهل مما نتصوره بكثير، ولكنه يحتاج لمزيد من الاهتمام والعناية ابتداءً من الفصل ومروراً بالإذاعة الصباحية ومسرح المدرسة وانتهاءً بمسرح الإدارة، وهذا كله منوط بالمشرف الثقافي ومدير المدرسة ورائد النشاط ومشرفي الأنشطة بالمدارس والمعلمين عموماً، فإذا تفاعلت هذه المنظومة وفعَّلت هذا النشاط ووضعت له الحوافز المادية والمعنوية فسنرى النتائج قريبة يافعة بإذن الله تعالى.
ثالثاً: الحركات والإيماءات التي يستخدمها ملقي القصيدة أو الكلمة لها أهميتها ودورها البارز في التأثير على المتلقي وتفاعله مع ما يقال، فإشارات الأيدي وتغيّر نبرات الصوت وقسمات الوجه تضفي على القصيدة أو الكلمة رونقاً آسراً، وجمالاً أخاذاً متى ما استعملت في محلها المناسب باعتدال دون تكلّف أو مبالغة، والمتابع لميادين الإلقاء في الفترة الأخيرة يلحظ مبالغة الطلبة في هذا المجال والتكلّف فيه، حتى طغت الحركات على الكلمات، وهذا بدوره أثّر على الملقي والمتلقي سلباً لا إيجاباً، فحبذا لو تنبه المسؤولون عن الأنشطة لهذه النقطة وسعوا لعلاجها، فالوسطية مطلوبة، والاعتدال أقرب للنفوس.
رابعاً: من الأمور الملحوظة على اللوحات الإلقائية غياب الإلقاء المقروء من الورقة واقتصارها على الإلقاء المحفوظ، وهذا عمل غير مستساغ البتة، لما فيه من تضييق لمجالات الاستفادة، وكبت لبعض المواهب، وذلك أن فتح المجال لمثل هذه المسابقات والمنافسات يُسهم في طرق العديد من الموضوعات مهما صَعُبت ألفاظها وشق حفظها، ويسهم في صقل موهبة الطالب الذي تتوافر فيه صفات الخطيب الناجح، ولكنه يفتقر إلى ملكة الحفظ، فحبذا لو حظي هذا الجانب باهتمام مسؤولي الأنشطة، ووضعت له مسابقة خاصة، ولاسيما أن جّل الخطب التي تلقى في عصرنا الحاضر هي من هذا القبيل حتى في خطب الحرمين الشريفين، ولا شك ان هذا النوع من الإلقاء فوائده عديدة ولا تخفى على ذي لب.
خامساً: غالباً ما يعقب الإعلان عن النتائج النهائية لمسابقات الإلقاء نقد موجه للجنة التقويم والتحكيم حتى وصل الحال بالبعض إلى الاتهام بالمحاباة، والميل لمدرسة دون أخرى. ونحن نعلم أن اتهام المسلم لأخيه دون تثبت أمر منهي عنه شرعاً، فكيف إذا وقع هذا الشيء في معاقل التعليم ومحاضن التربية؟! ونحن لا يمكن بحال أن نشكك في أمانة لجنة التقييم والتحكيم ولكن من واجبنا أن نسعى للقضاء على هذه الشكوك أو التقليل منها على أقل الأحوال، ولذا آمل من المسؤولين عن منافسات الإلقاء التنبه لأمرين هامين هما:
الأول: الدقة التامة في اختيار لجنة التقييم والحرص الشديد على انتقاء الكفاءات المؤهلة لذلك فالإلمام بفنون اللغة العربية وفصاحتها والتذوق الفطري لبلاغتها وجمال تراكيبها، والخبرة المكتسبة في مثل هذه المسابقات شروط لا بد من توافرها في كل عضو من أعضاء اللجنة.
الثاني: يستحسن أن يرفق مع ورقة برنامج الحفل التي توزع على الحضور ورقة أخرى تتضمن جدولاً يشار فيه إلى أسس التقييم وبيان الدرجات الكلية وعناصر توزيعها ومقدار الدرجة المخصصة لكل عنصر من عناصر التقييم كحسن الصوت واختيار النص والالتزام بالوقت المحدد وسلامة اللغة، والثقة بالنفس، والتفاعل مع الكلمة وهكذا حتى يكون المتلقي على بيِّنة من أمره ولا يطلق لنفسه العنان في اتهام الآخرين وهم أبرياء.
سادساً: من الأمور التي تلحظ على المسابقات الجماهيرية عموماً كثرة الكلام والضحك والعبث في الصفوف الخلفية من المسرح، ولا شك أن هذه الأشياء لا تليق في كل مكان وفي معاقل التعليم بشكل خاص، وتعطي صورة غير جيدة للطلبة، إضافة إلى أنها تزعج المتلقي وتشوش على الطالب الملقي وتفسد عليه تسلسل أفكاره، وتشغل تفكيره، وتقلل من تفاعله مع ما يلقي وتطفئ لهيب حماسه، فحبذا لو اهتم المسؤولون عن المسرح بمثل هذه الأمور في المسابقات القادمة وسعوا للقضاء على مصدر الازعاج بالمتابعة الدائمة والتوجيه المتتابع والله المستعان.
وختاماً: هذه بعض الملحوظات التي خرجت بها فإن أكن مصيباً فهذا من فضل الله تعالى وإن يكن العكس فأسأل الله المغفرة وليعلم الجميع أن ابداء الرأي وتوجيه الملحوظات والأخذ بها من أبرز مقومات النجاح والقضاء على المآخذ والسلبيات وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أحمد بن محمد البدر «الزلفي» |