Tuesday 3rd February,200411450العددالثلاثاء 12 ,ذو الحجة 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

التشكيل الثقافي التشكيل الثقافي
د. موسى بن عيسى العويس(*)

كم هو رائع حين يتحول جزءٌ من جدول أعمالنا في مجالسنا التعليمية والتربوية إلى ما يشبه المنتدى الثقاقي الذي يستعاض به، ولو لفترة قصيرة عن رتابة العمل الإداري وهمومه. هذا ما نحت إليه الإدارة العامة للتعليم بمنطقة الرياض، أو حاولت أن تتجه له، فوجد لدي هذا الاتجاه شيئاً من الاستحسان. في إحدى الجلسات لومس الأدب الباكي الذي أصبح سمة مسيطرة على مناشطنا الثقافية عامة، والتربوية بوجه خاص، رغم أن هذا الاتجاه الذي استمرأنا إيقاعاته في أنديتنا، لم يورّث لنا في نفوس الأجيال سوى الانهزامية والانكسار في زمن شموخ الحضارات وتصارعها،
وقد جرني هذا الموضوع إلى غيره من الاتجاهات التي اتخذناها، وكأنها مسلّمات. تشربناها حكمٌ سائرة، وأمثلة جارية، ووضعناها -مع الأسف- نصب أعيننا، وأمام ضمائرنا، ونحن نشق طريقنا في الحياة المتشعبة، جاهدين في إثبات الذات، غير ملتفتين إلى آثارها الاجتماعية.
في النظرة الإقصائية، أوالآحادية، أو التشاؤمية للناس والمجتمع الذي نعيش في كنفه، نأخذ مثلاً بيتاً من أبيات المتنبي (مالئ الدنيا، وشاغل الناس)، حين يقول:


ومن عرف الأيام معرفتي بها
وبالناس روّى رمحه غير راغب

أو قوله:


لايسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يراق على جوانبه الدمُ

أو قول (الطغرائي)، الذي نتناقل لاميته بشيء من الإعجاب حين يقول:


وحسن ظنك بالأيام معجزة
فظنّ شراً وكن منها على وجل
أعدى عدوك أدنى من وثقت به
فحاذر الناس واصحبهم على دخل
فإنما رجل الدنيا وواحدها
من لايعوّل في الدنيا على رجل

ولا أدري كيف تستطيع أمة رضعت مثل هذا التراث وسرى في عروقها، واستنبتته في وجدانها، أن تبني جسوراً من الثقة والتعاون والاحترام في كيانها الصغير، فضلاً عن العالم الخارجي الذي فرض علينا الواقع المعاصر الاتصال به، والارتباط بحضارته والاعتراف بها.
يفوت على كثير منا، وبخاصة الفئات المتلقية، أو التي اعتمدت على التلقين أن الأكوان، بل الحياة لم يعمرها سوى المحبة والسلام. والقلوب الإنسانية إذا لم تتسع للدنيا، فلا تعدو كونها مضغا صغيرة، وأوعية جوفاء. وإذا لم تفهم انغام الكائنات بمختلف أجناسها، وتعدد اطيافها، فوظائفها في الكائن رتيبة، واوتارها في واقع الحال ميتة، لاتشدها الأفراح ولاتحركها الأتراح.
نحن دائماً نتمسك بالمثل، والشاهد، والعرف، دونما معرفة بالظروف والملابسات التي أحاطت بحياة أصحابها، وإلا لما سلمنا بها تسليما، واتخذنا مبتكريها رموزاً على مسار ثقافتنا وحياتنا.
قد لايتفق معي الكثير إذا قلت إن الجوع والعطش المُلحين (بالمتنبي) -على سبيل المثال- إلى المال والجاه الدنيوي هو ما قتلا فيه الناحية الإنسانية والعاطفية تجاه الآخرين، فأحالته إلى مايشبه الجماد، حتى أنه عاد إلى نفسه، وقد تأثر من خشونته وتبلّد إحساسه، وفسد مزاجه الذي انطوى على ألف عقدة وعقدة، وغصة وغصة، فقال:


أصخرةٌ أنا مالي لاتحركني
هذي المدام ولاتلك الأغاريد
لم يترك الدهر من قلبي ولا كبدي
شيئاً تتيمه عينٌ ولاجيدُ

طبيعي أن تجد هذه المعاني عنده وعند غيره، ممن تشكلت حياته من المرارة، والغيظ، والألم الطافح، والأمل الفاشل، فبدت نفسه ناقمة محترقة في جحيم مطامعها، لكن أليس بإمكان الإنسان ترويض نفسه، وكبح جموحها؟!.
أكاد أجزم أن الإنسان الذي استحوذت عليه هذه الصفات لو غيّر من طبعه الجاف، وأوتي موهبة السخاء، والكرم، والمحبة، والإخاء، لملك قلوب الناس، وفي طليعتهم قلوب حسّاده ومنافسيه، ولاستطاع أن يخلق من حوله مجتمعاً إنسانياً متآلفاً، يسوده العدل، والرحمة، والمحبة، والموآخاة.
ودونك هذا النموذج المغاير لذلك الإنسان الذي عمر حب الناس وجدانه، حتى بلغ به هذا الحب مبلغاً عظيماً - رغم ما اعتور حياته الخاصة من سغبٍ ومشقة وضنك في العيش- لكنه أفسح قلبه للحب، فتاقت نفسه بأدبه للسمو والكمال، فظفرنا بتلك الصورة الصادقة واللطيفة التي رسمها هو لنفسه في إحدى قصائده حين قال:


أقيموا على قبري من الصخر دمية
بها رمز عيشي بعد موت يعرضُ
يدان بلا جسم تمدان بالفضاء
تُمدان من صخرٍ على القبر يربضُ
فيمناهما ممدودة تشحذ الجدا
لتشبع جوع النفس والجوع يرفضُ
ويسراهما فيها فؤادٌ مضرّجٌ
تقدمه للناس والناس ترفضُ

(*)الإدارة العامة للتربية والتعليم بمنطقة الرياض


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved