وصلتني كغيري العديد من رسائل التهنئة بمناسبة عيدالأضحى المبارك، عبر الجوال أو الانترنت، وما يعكر صفو بعض هذه الرسئل أنها تكاد تكون رسائل عزاء، وكأن العيد مناسبة لاسترجاع الآلام والأحزان. وقد ناقشت أحد المرسلين في ذلك فقال: لم يعد للعيد معنى إزاء ما يحدث.. فلسطين أُمُّنا وقد سُلبت، والآن العراق عنوان تاريخنا ومجدنا، وغداً سورية قلبنا النابض.. فماذا تبقّى؟ إن أعيادنا ما هي إلا سلسلة من الهزائم والخيبات حتى غدت سماجة مبتهجين لا يتقنون سوى الكلام التافه.. فإن لم يكن العيد للعزاء فالسكوت أولى! قلت له: إن أفضل هدية نقدمها إلى أعدائنا وأمراضنا وتخلفنا هو أن نُكبَّ على الأحزان فلا نعرف غيرها، فننهزم من الداخل!
وقلت لصاحبي: أليس العيد هو للبهجة والسعادة كي نحس أننا جديرون بحياة أفضل وبأن عالمنا متنوع بجماله وقبحه.. قال: لا وقت للبهجة.. لا وقت للمتعة فالغزاة رابضون على الحدود والمتآمرون يجوبون شوارعنا ونحن لاهون.. قلت: إن غاية ما يصبو إليه الغزاة الذين تتكلم عنهم، أن ننطوي على أحزاننا ونغلق النوافذ عن مباهج الحياة فينتصرون علينا من داخل ذواتنا. فأخذ صاحبي يقرأ لي قصيدة لشاعر لم ير بالعيد غير مأساة أطفال يُتَّم وأرض مغتصبة! قلت له: هل تظن أنا نجهل هذه القضايا العامة؟ إن كان لك حزن خاص لا نعرفه فهذا حقك أن تعبر عنه في العيد، أما أن تنتحب في العيد على قضايا عامة نعرفها جميعاً ولا جديد فيها ولا خصوصية لك بها، فهذا تشويه لمقاصد العيد.للعيد معنى إنساني وفلسفة للفرح تنطلق من مناسبة حيوية مهمة تشعر الجماعة أو الأمة بوحدتها وقوتها المادية أو الروحية.. فأنت لا تجد أمةً من الأمم إلا ولها أعيادها. فالاحتفال بالأعياد من الأمور الغريزية لدى الجماعات، بغض النظر عن المآسي التي تمر بها. وقد ظهرت الأعياد منذ آلاف السنين مع استقرار المجتمعات البشرية التي احترفت الزراعة وارتباطها بالتقويم الفلكي لمعرفة مواقيت المواسم من زراعة وحصاد ونماء، وامتزاجها ببعض الأساطير لجلب الصخب ودفع الآفات والشرور. وتطورت الأعياد مع ظهور الأديان السماوية وارتقت بها إلى معاني أكثر روحانية مع احتفاظها بمظاهر الفرح. وفي هذا السياق كتب مصطفى عاشور: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب ويرغب في أن يظهر المسلمون السرور والبشر والسعادة وممارسة بعض الألعاب الترفيهية والإنشاد والغناء في ذلك اليوم كما نصت الروايات الصحيحة في البخاري، بل كان يخرج هو بنفسه صلى الله عليه وسلم لمشاهدة هذه الألعاب التي يؤديها الأحباش، ولا يمنع زوجاته من مشاهدتها، بل كان يضع خده على خد عائشة رضي الله عنها عند مشاهدة هذه الألعاب، وكان يقول صلى الله عليه وسلم في يوم العيد: (لتعلم يهود أن في ديننا فسحة، إني بعثت بحنيفية سمحة). يقول الفقيه الصنعاني في كتابه (سبل السلام): (يندب لبس أحسن الثياب والتطيب بأجود الأطياب في يوم العيد).لا شك أن قضايا وطننا العربي وفلسطين والعراق وهموم الأمة تستحق منا الكثير، ولكن ليس في وارد مقاصد العيد ولا غايته أن ننحصر في الهموم.. فبهجتنا في العيد هي من جهة أخرى مجابهة حضارية للخصوم.. وحصول الترفيه هو في ذات الوقت دعم معنوي لنا لمواجهة الأزمات... ودعم روحي ومعنوي لمجابهة مكابد الحياة من خصوم وأمراض وعلل داخلية... فإذا تمكن الخصم من القضاء على الفرح في داخلك يكون قد استحكم حالة الصراع معك، وأصبحتَ رهينة لمناوراته. وإذا ولولت وجزعت من مرض عضال انتابك فقد تغدو فريسة لهذا المرض. المتعة والمرح ليسا شيئاً ثانوياً نلغيه وقت الأزمات المستديمة، بل هو عامل نفسي أساسي لمجابهة الأزمات، فكما وضح لنا مختصو أمراض القلب والعلل النفسية بأن الراحة النفسية والبهجة والضحك والحبور هي مفتاح لصحة الجسد والنفس، كذلك فإن مباهج العيد والتمتع به هي مفتاح لنجاح دوره الصحي حضارياً.لكل مقام مقال.. هكذا قالت العرب.. ونحن في مقام العيد، أي الفرح والحبور والتعالي على الجراح والمآسي، وهو كذلك في الطرفة والأعراس والغناء والمهرجانات.. أو كما يقول الشاعر الفلسطيني محمود درويش في مجابهة العدو (ونحن نحبُّ الحياة ما استطعنا إليها سبيلاً). الحياة واسعة متنوعة جميلة ظالمة.. إلخ؛ ولكننا نحب الفرح ونحبها ونبتعد عن الأحزان ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً!!
ليس من مقام العيد مقالة السياسة والعلوم والهموم العامة، هذا لا يعني ان العيد خال من الالتزام بالقضايا الإنسانية بقدر ما يعني أن دوره ليس سياسياً مباشراً لقضية فلسطين أو غيرها من القضايا الهامة.. كما أنه ليس من مقام البحث العلمي الانجراف في السياق الأدبي أو السياسي.. ليس من مقام الهندسة الحديث عن اللغة.. ليس من مقام خطيب صلاة الجمعة التعبدية أن يزجنا في خطاب سياسي ذي اجتهاد فردي.. ليس من مقام السياسي أو الداعية اصدار فتاوى دينية.. إلخ. وفي زعمي أن الاشكالية الكبرى التي ترهق كثيراً من مثقفينا العرب هي الازدواجية بين المفاهيم ومدلولاتها الوقتية والمكانية.. بين العاطفية والواقعية.. بين الذاتية والموضوعية.. بين التخصص والعمومية.. وغالباً ما تنتصر العاطفة المتوترة والعمومية نظراً لسهولتهما. فكثيراً ما يردد على مسامعنا بيت المتنبي:
عيد بأية حال عدت يا عيد
بما مضى أم لأمر فيك تجديد |
ويقتفي أثره كثير من الشعراء، وينسى هؤلاء أن حزن المتنبي كان ذاتياً وخاصاً وليس استرجاعاً لهمٍّ عام معروف لا جديد فيه، فهو يتحدث عن حاله المشردة والمنكوبة أثناء هربه من كافور الأخشيدي، بينما الناس كانوا منغمسين في فرحة العيد. وهو وغيره له الحق كل الحق بالتذمر والشكوى الفردية، لأنها جديدة ولأنه غير قادر على الفرح وهو مطارد.
عندما تنظر للعالم الفسيح من خلال عاطفة الهموم العامة فأنت مرتهن لهذه العاطفة بصحيحها وعليلها.. العالم ليس ثقباً ضيقاً ينحصر في الهموم العامة.. العالم فسيح ومتنوع ومعقَّد يا صاحبي.. والعالم ليس سياسة فقط.. والسياسة ليست فلسطين فقط.. وفلسطين ليست حدوداً جغرافية فقط.. إنها بشر وحضارة رائعة متنوعة.. فمن هذا الجمال ترنم للعشق والحبِّ.. افرح بالعيد واصدح بالأهازيج، ولا تكثر من البكاء كي لا يفرح الأعداء.. شارك الفلسطينيين والعراقيين أعيادهم.. شاركهم حب الحياة والمرح كي تساندهم.. افتح النوافذ في الجهات الأربع.. افتح نافذة أوسع كي ترى الحياة! قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: (الناس أبناء الدنيا، ولا يلام الرجل على حبه أمه).
|